كان ذلك في الخامس من تموز (جويلية) عام 1830م، عندما حضر لصوص فرنسا وكلابها الضالة وعصابات القتلة من جنرالات وجنود لتدنيس أرض الجزائر واغتصاب أرض الحرائر، أرض الرجال أمة النازعات الماحقات، بلد الدماء الزاكيات الطاهرات، فشمرّ رجالها عن سواعدهم وبدأوا يبذلون الدّماء الزكية في سبيلها ويروون ترابها بالدماء. طال أمد الاحتلال الفرنسي للجزائر، وطال ليل القتلة والمجرمين، وسيل الشهداء في ازدياد، حتى نالت شرف بلد المليون شهيد، ولا يبلغ هذا الشرف سوى الجزائر ولا يستحقه إلا الجزائر وشعب الجزائر، لكن دورة التاريخ علّمتنا أنّ ليس للمحتل مستقبل في بلادنا، وليس للصوص والقتلة منا سوى الثورة، سوى الموت الزؤام والاندحار التام. بقيت الجزائر ورحلت فرنسا، وبقي عبق الحضارة والتاريخ، وعاش الشهداء إلى الأبد وعمروا إلى أبد الآبدين، أكثر مما عمر المحتل وأكثر مما عمرت فرنسا الاستعمارية وجنرالاتها القتلة في بلاد الشهداء. لقد خلّدت أسماء رجالها وأبطالها إلى الأبد بينما طويت صفحة القتلة إحدى أحذية النسيان. أصبحت «جميلة بوحيرد» قمراً جزائرياً لا ينطفئ...والأمير «عبد القادر» سيفا لا يغمد، أصبح الصغار والكبار يغنون وينشدون للعربي «بن مهيدي» ويهتفون ل «بن بولعيد وحسين أيت أحمد»..يكتبون الشعر «لأحمد بن بلة ومحمد بوضياف»، ويوزّعون صور «كريم بلقاسم ورابح بيطاط»، بقي هؤلاء أحياء إلى الأبد وزالت وجوه القتلة من دفتر الإنسانية إلى الأبد. وبقينا نمارس عشقنا وحبنا إلى الأبد، نقسم بالنازعات الماحقات...والدماء الزاكيات الطاهرات أن تحيا الجزائر...وأن لا يدوس ترابها دنس أو محتل أو غادر. وذات الخامس من تموز (جويلية) الذي وطأت أحذية القتلة أرض الجزائر، رحلوا واندحروا في قبر الخامس من تموز من عام 1962، فكان عرس الجزائر بامتياز. غابت وجوه القتلة «اوساريس وبيجار» في زحمة انتصار الشعوب المدحورة والمظلومة، ورفرفت البنود اللاّمعات الخافقات فوق الجبال الشامخات الشاهقات، وفي كل أزقة وشارع في الجزائر، منذ ذلك الحين والجزائر أمّا وأبا حنوناً على بلاد العرب المحتلة وخاصة فلسطين. ونحن هنا في فلسطين تسرّبت الجزائر إلى مساماتنا وسويداء قلوبنا، وسكن حبها جيناتنا الوراثية، فما سألت كاتباً أو عالماً أو حتى مواطناً عادياً إلا وقد باح لي بحبه للجزائر، ذات القلب الذي عشق فيه فلسطين. عشقنا للجزائر لا يتجزأ، فنحن كما قبائل بني عذرة، إن عشقنا متنا عشقا في من نحب. والجزائر تسكن في سويداء القلب، نعشق الجزائر في كل أطيافها ومكوناتنا وأجيالها ومدائنها، عشقنا للجزائر ليس قابلا للقسمة والنقاش. من لا يعشق الجزائر لا يعشق فلسطين، ونحن في يوم الجزائر وفي عرس الجزائر، يبقى حبنا وعشقنا جزائرياً بامتياز لوناً وعبقاً وطعماً، فيجب ألا ننسى ما فعلته فرنسا من مجازر وتجارب نووية وتلويث للهواء والفضاء والحجر والشجر، لا يجب أن ننسى ان فرنسا التي لا تزال تحتفظ بعظام وجماجم شهدائنا في متاحفها، في انتهاك لأكثر حقوق البشر في الدفن تحت الثرى حسب معتقداتنا وشريعتنا. يجب أن نلفظ فرنسا من فضاءاتنا ومن جرحنا ومن ليلنا الطويل، وحتى من حبل الغسيل، ومن لغتنا. لكن الجزائر ستبقى حرّة، وتبقى شوكة في حلق كل محتل وكل معتد أثيم، فهي السيف الذي لا يغمد. كل عام والجزائر جزائر وشعبها حرّ وثائر..كل عام وفلسطين جزائر.