عندما تصل لنا رسائل من أبناء الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، تمتزج الدموع مع مداد أقلام من سطروا ملاحم صمود وصبر، ولا سيما عندما يكتب أسير عن أسير وهما رفبقان في القيد معا؛ مشاعر مختلطة لا يمكن ان يفهم القراء مقاصد المعاني بكامل أبجديات اللغة الإنسانية والعربية؛ إلا من ذاق مرارة وويلات غياهب السجون، أو أحرار العالم الذين يدعمون حقوق الشعب الفلسطيني بالحق بالحرية والعيش بكرامة والانعتاق من الاحتلال، أو من هم رفاق بالأسر حيث عاشوا وتقاسموا قسوة جدران الزنازين، والذين يعرفون صدق الانتماء والوفاء للوطن فلسطين الذي يعاني ويلات الاحتلال وجرائمه ضد الكل الفلسطيني. وصلتني رسالة، يتحدث خلالها ثائر كايد حماد عن صديق جمعته به أقبية الزنازين وزرد السلاسل وزنازين العزل. كتب ثائر حماد قائلا: لقد جمعتني المواقف النضالية في السجون رغم كثرتها وتعددها من سجن نفحة جنوباً حتى هداريم شمالا. جمعتني بالقائد الفتحاوي الفذ المقاوم العنيد الصلب القناص المجهول. القناص الملثم عز الدين الحمامرة والذي اعتقل بتاريخ 7.3.2004. كان لقائنا الاول والأهم في سجن هداريم عام 2008. هناك في بقعة تطل على البحر الأبيض المتوسط علّنا نكون قد تنفسنا نسماته ببيارات البرتقال المحيطة بالسجن والتي زرعها أجدادنا كما أخبرنا الاهل أثناء الزيارة، تفوح رائحة زهر البرتقال، رغم رطوبة الجو والبحر تملأ ثنايانا، ونحن قد اعتدنا هواء وأجواء الجبال. رغم الاسلاك الشائكة، وسطوة الظلم، ونازية المحتل، وأقبية الزنازين، إلا أننا تعاهدنا على الأخوة أولاً، ومن ثم تعاهدنا على اخوة السلاح ثانياً، تعاهدنا على تحرير فلسطين، كل فلسطين مادامت أنفاسنا تملأ قلوبنا». ويضيف ثائر: جمعتني والقناص الملثم عزالدين الحمامرة مواقف بطولية وبصمة عزَّ وكرامة، في مواجهة قوى الظلام الصهيونازية، والقمعية للنيل من عزيمتنا وصمودنا، تمترسنا درع واقي في الصف الأول لمجابهة المحتل وسجانه، في كل حالة تمرد وعصيان داخل اقبية السجون ورفض قاطع على سادية المحتل الغاصب. خلال تسعة عشر عاما في الأسر، تعرفنا من خلال التنقلات التعسفية العقابية بحقنا على ابشع اقبية الزنازين الانفرادية وابشع أساليب التنكيل السادية الفاشية الصهيونية بحقنا كأسرى وكنا نداً للمحتل ومخرزاً في عين المحتل. لم تنل كل هذه الإجراءات العقابية من صمودنا ومحاولة ترويضنا، أصبحنا أقوى وأصلب وأعند، كما الاسود في عرينها، تكسرت فاشية المحتل على عتبات صبرنا وصمودنا الاسطوري وأيقن المحتل ويأس من ترويضنا، لا يمكن النيل منا، ولن يطفئ حقده جذوة نضالنا وثورتنا التي تشتعل وتزاد يوما عن يوم بقوة وثبات. تعرفنا خلال العقوبات على كافة زنازين العزل في كافة السجون. لم تكن معرفتي طوال سنوات الحقيقة بالقائد القناص العنيد، عزالدين الحمامرة، سوى معرفة سطحية، محامي مزاول لمهنته، مثقف، مشتبك، تزينُه مكارم الأخلاق، معلم لأحكام الشريعة، وأحكام التجويد، والسيرة النبوية، ومثقف حاصل على الماجستير، ولا سيما ان عز الدين محكوم بالمؤبد المكرر تسع مرات. كانت تراودني نفسي دائما انه قامة وطنية بحجم قائد في قلبه صندوق أسود! كيف لي أن أنهل منه؟ أثار في قلبي حماسة معرفة قائد الظل المجهول عن قرب. أخيراً جمعتني وعز الدين خطوة نضالية لن تكن الاخيرة بالتأكيد، ولكن لها خصوصية ان نكون معاً وهي التمرد على قرارات النقل التعسفي لنا من سجن نفحة الصحراوي، رفضنا نقلنا التعسفي الذي أقره مدير سجن نفحة، ولكن تم نقلنا بعد منتصف الليل الى عزل أيلا في سجن بئر السبع، تم وضعنا في زنزانة حقيرة باردة عفنه منتنة، لستُ بصدد وصف تلك الزنزانة فهي حكاية طويلة أخرى لها مقام آخر نذكره لاحقاً. مرّ الاسبوع الاول ونحن في تلك الزنزانة الباردة المنتنة.. انتهى الكلام بيننا.. لا جديد للحديث عنه، انقطعنا بشكل تام عن العالم الخارجي، ساد صمت مطبق ويحه من صمت. عزالدين الحمامرة لا يأبه بالإعلام ولا يحب السطوع ولا ان يكون ضمن الخطوط العريضة للأخبار ولا السوشل ميديا متواضع بكل ما تعنيه الكلمة، يعتبر نفسه أصغر أسير في الحركة الاسيرة، لا يحب الحديث عن نفسه، بل أفعاله وصموده وحضوره الساطع يترك أثراً وصورة لا يمكن أن تنسى. فاجأني أبا خالد عزالدين الحمامرة بفتح صندوقه الاسود قيد انملة، من أجل نفض رتابة الصمت المطبق ونفض غبار وحشة الزنزانة، بدأنا بتداول الحديث فيما بيننا. خمسون يوما ونحن تحت الارض، تنهش أجسادنا رطوبة المكان وحلكة الظلام، ينفض ابو خالد غبار الزمن، ثمانية عشر عام وأنا أعرفه معرفة سطحية، فتح باب ثقة بيننا أولاني ثقة حد السماء، أخبرني بتلك الادوار القيادية النضالية التي قام بها قائد الظل المجهول كما أطلق أنا عليه أثناء انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية). هنا صدق حدسي وانطباعي عن ذلك القائد الفذ العنيد، صندوقه الاسود تملأه حكايا النضال البطولية تزداد شراهتي بمعرفة التفاصيل، شيفرة الدخول إليه لا يملكها إلا عز الدين القناص الملثم، قائد الظل المجهول، أثناء حديثه الشيَّق المليء بالأحداث والروح الوطنية والتضحية والاقدام والشجاعة.. أبهرني بحضوره وزخم الماضي النضالي، سالت دمعتي، وحشرج صوتي، اقشعر بدني، لكن لم ينتبه فلا مجال للانتباه في ظلمة الزنزانة. في تلك الليلة عاهدت نفسي أن أكتب؛ وبكل شرف عن قائد بحجم الوطن معطاء حد النخاع أكتب عن عز الدين الحمامرة أبا خالد فالواجب الوطني يحتم علي ان أنقل هذا النموذج المشرف القائد البطل المقدام لأعرَّف جيل الشباب والمثقفين والاجيال القادمة من أبناء شعبي ومن أراد ان يكون له قدوة ومثل أعلى فليتعرف على عزالدين. تاريخنا مليء بالنماذج الوطنية الشريفة التي تعمل في الخفاء وبسرية تامة لتحرير فلسطين وعودة اللاجئين، فعندما نقول قائد بحجم وطن نشير بالبنان للقناص الملثم عز الدين الحمامرة قائد حقيقي وقامة وطنية في زمن القيادة الوهمية وأبطال الوهم. وكذلك واجبٌ علي ان أعرَّف أبناء الشبيبة الفتحاوية وكل من ينتمي لحركة فتح التي كانت حُلمنا وصاحبة المشروع الوطنى والضامن الحقيقي لقضيتنا العادلة وعودة اللاجئين. يتعذر عليَّ ان اذكر كافة الحديث بكل تفاصيله الدقيقة التي أخبرني بها ابو خالد، وذلك لأسباب أنتم تعرفونها فنحن ما زلنا داخل الأسر وكل كلمة أو تعبير يمكن ان يتم محاكمة القناص الملثم عليها من جديد. خمسون يوما في تلك الزنزانة الحقيرة والتي تفتقر الى أدنى مقومات الحياة تناقشنا، تحدثنا، تطرقنا الى السياسة، الى أحكام الجهاد، حتى أننا تطرقنا الى قرية حوسان بت أعرفها وكأنني تربيت فيها. وسلواد مهد طفولتي وريعان شبابي.