حوكمة اقتصادية عالمية عادلة ومنصفة دعت دول بريكس منذ بروزها إلى غاية وقتنا الحالي إلى إصلاح المؤسسات الاقتصادية المالية الدولية متعدّدة الأطراف (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، لكي تحصل الدول الناشئة على مزيد من التأثير، خاصة فيما يتعلق بنظام التصويت في هذه المؤسسات، بما يتناسب مع نمو وضعها في الاقتصاد العالمي والتجارة العالمية، غير أنّ هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعدة دول أوروبية، حالت دون أن تحقق هذه الدول تقدما يذكر في إعادة هيكلة هذه المؤسسات العالمية، لكي تعكس التطورات الفعلية في الأهمية النسبية للمجموعات الاقتصادية المختلفة على الصعيد العالمي. واستمرت الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاؤها في توجيه سياساتها وسيطرتها على إدارة هذه المؤسسات المالية الدولية في الوقت الذي لا تتمتع دول "بريكس"، رغم ثقلها الدولي، بدور يذكر في هذه المؤسسات. ولذلك تشدّد دول "بريكس" على إعادة النظر في نظام الحصص والتمثيل العادل في صندوق النقد الدولي الذي انطلق منذ عام 2006، مع الأخذ بعين الاعتبار بروز الدول الناشئة، فالصين مثلا، رغم نمو وتيرة اقتصادها، إلا أنّ نسبتها من عدد الأصوات ما يقارب 04 نسبة 3.81% من الحصص، فهي بوزن حصص بلجيكا في صندوق النقد الدولي، وعلاوة على ذلك، تمثل هذه الدول نموذجا للتنمية ذات أهمية كبيرة من قبل الصندوق، فقد شهد الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول نموا قويا من خلال الانفتاح الدولي، حيث تمتلك احتياطيا كبيرا من النقد الأجنبي، وبالتالي، فإنّ الرغبة في زيادة موارد الصندوق التي تعتبر ضرورية بغية منح تسهيلات مالية للدول، يتطلب توسيع عدد من المساهمين الرئيسيين غالبا ما تلجأ الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى عرقلة أيّ تكتلات من شأنها أن تهدّد من درجة استقلاليتها واستمرارية هيمنتها عالميا. وعليه، فهذه من الأسباب الرئيسية لاتخاذ القرار النهائي بإنشاء مؤسستين في غاية الأهمية، وهي نتيجة لاستياء دول بريكس من المؤسسات متعددة الأطراف القائمة في الحوكمة المالية الدولية. الوضع القائم.. ليس قدرا محتوما.. ويمكن هنا إسقاط نموذج السلعتين على دول بريكس، ومن أهم الافتراضات الرئيسية التي تعتمد عليها نظرية السلعتين أنّ الدول تسعى وراء سلوكها الدولي وسياستها الخارجية المركبة وهما تغيير وضع ما، ومن هنا نجد أنّ دول بريكس تسعى لتغيير الوضع القائم من خلال إنشاء حوكمة إقتصادية عالمية أكثر عدلا وإنصافا يسودها التقاسم المشترك والعادل للموارد بين الدول وهذا ما نجده يسعى لتجسيده على أرض الواقع من خلال تأسيس نظام مالي دولي جديد موازن للنظام المالي الدولي (بريتن وودز)، والهدف من هذا كله هو تغيير النظام الاقتصادي الدولي الراهن وإصلاح مؤسسات الحكم العالمية، مع الحفاظ على مكانته ووزنه في الساحة الدولية، وبلوغ الأهداف المسطرة ضمن هذا التكتل (تعزيز النمو القويّ والمستدام والمتوازن). المتمثلة في تعزيز الاستقرار المالي والتنمية المستدامة والنمو الاقتصادي الدولي الأكثر تمثيلا من خلال متابعتهم للتنسيق المثمر وتعزيز الأهداف الإنمائية داخل النظام الدولي والهيكل المالي. السعي لتسهيل الروابط بين الأسواق والنمو القوي واقتصاد عالمي مفتوح للجميع يتميز بالتوزيع الفعال للموارد وحرية حركة رأس المال والسلع والمنافسة العادلة والمنظمة بكفاءة. كما يعزّزون أيضا التواصل والتنسيق في تحسين الإدارة الاقتصادية العالمية لتعزيز نظام اقتصادي دولي أكثر عدلا وإنصافا، والعمل على تعزيز صوت وتمثيل دول بريكس والدول الناشئة في الإدارة الإقتصادية العالمية وتعزيز العولمة الإقتصادية المفتوحة والشاملة والمتوازنة، وبالتالي المساهمة في تطوير الدول الناشئة وتوفير قوة دفع قوية لمعالجة الاختلالات في التنمية بين الشمال والجنوب وتعزيز عالمية النمو. بنك التنمية الجديد .. أعلن قادة دول بريكس الخمس (البرازيلروسيا، الهند، الصين، جنوب افريقيا) عن توقيع الاتفاق المنشئ لبنك التنمية الجديد (NDB)، في فورتا ليزا بالبرازيل في 15 جويلية 2014 في قمة بريكس السادسة، في إطار مناقشة موضوع "النمو الشامل والحلول المستدامة"، حيث اتفق القادة خلال توقيع الاتفاق فيما بينهم لمصرف التنمية الجديد: "سيعمل بنك التنمية الوطني على تعزيز التعاون بين بلداننا وسيكمل جهود المؤسسات المالية متعددة الأطراف والإقليمية من أجل التنمية العالمية وبالتالي المساهمة في التزاماتنا الجماعية لتحقيق هدف النمو القوي والمستدام والمتوازن" (الموقع الرسمي للبريكس، 2013) حيث قدر رأس المال المصرح به للبنك 100 مليار دولار أمريكي، ويبلغ رأسمال المكتتب به المبدئي 50 مليار دولار أمريكي يتم تقاسمها بالتساوي بين الأعضاء المؤسسين. من المتوقع أن يصل رأس المال المدفوع لبنك NDB في عام 2022 إلى 100 مليار دولار أمريكي ويمكن أن يتمكن بسهولة من الوصول إلى 130 مليار دولار أمريكي في حالة قبول أعضاء جدد. يكون أول رئيس لمجلس المحافظين من روسيا، والرئيس الأول لمجلس الإدارة من البرازيل وأول رئيس للبنك من الهند ويكون المقر الرئيسي للبنك في شنغهاي، وأعلن القادة أيضا عن توقيع معاهدة لإنشاء "صندوق الترتيبات الاحتياطية المشروطة" (CRA)، أيّ مقابل صندوق النقد الدولي، والذي يسمح بتخصيص 100 مليار دولار أمريكي تساهم فيها الصين ب41 مليار دولار وجنوب إفريقيا ب05 مليار دولار، أما باقي قيمة المساهمات فتوزع بالتساوي بين باقي الدول، يرون أنه سيكون لهذا الترتيب الاحتياطي تأثير وقائي وإيجابي، لمساعدة البلدان على تجنّب ضغوط السيولة على المدى القصير، وتشجيع على المزيد من التعاون بين دول بريكس من أجل تعزيز شبكة الأمان المالية العالمية، واستكمال الترتيبات الدولية الحالية، فمهمة الصندوق مواجهة آثار خروج رؤوس الأموال المفاجئ من هذه الدول، حتى تتجنب مخاطر تخفيض قيمة عملاتها، من خلال عمليات تبادل العملات مع الصندوق، كإجراء احترازي لمساعدة هذه الدول في التعامل مع الأزمات التي يمكن أن تواجه عملاتها، وهي المهمة التي يضطلع بها أساسا صندوق النقد الدولي. كما يمكنها اللجوء أيضا إلى الصناديق السيادية التي أنشأتها في حالة وقوع أزمات اقتصادية. حيث يعتبر الخبير الاقتصادي تشارلز روبرتسون من مصرف الاستثمار رينيسيانس كابيتال أنّ تحقيق مثل هذه المؤسسات سيغير"الوضع"، موضحا أنّ جنوب إفريقيا أو الهند سيكون بإمكانها الحصول على احتياطات هائلة، وسيسمح ذلك لهما بالصمود أمام انهيار أسواقها، كما حصل في عام 2013 بسبب تطورات السياسة النقدية الأمريكية، بالإضافة إلى أنه سيتم إنشاء المركز الإقليمي لبنك التنمية الإفريقي الجديد في جنوب إفريقيا مع المقر الرئيسي، حيث وجه القادة لوزراء المالية التابعة لهم إلى وضع طرائق تشغيله. حيث دخل حيز التنفيذ في قمة أوفا (2015/07/9). الهدف الرئيسي من إنشاء هذا البنك (NDB) هو تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية في دول بريكس وغيرها من البلدان النامية، وهو نفس الدور المماثل لدور البنك الدولي. علاوة على ذلك، فإنّ الإستثمار في بنية تحتية مستدامة جديدة أقل بكثير من المستويات المطلوبة لمواكبة النمو الإقتصادي. تم إنشاء بنك للتمويل أيضا للمساعدة في سدّ هذه الفجوة في التمويل في إقتصادات بريكس، التي تهدف إلى توسيع نطاقها العالمي مع مرور الوقت وعليه يستعد البنك بقاعدة رأسماله المكتتب به البالغة 50 مليار دولار أمريكي، ليصبح مصدرًا إضافيًا هاما للتمويل طويل الأجل للبنية التحتية في البلدان الأعضاء. البنك الآسيوي لاستثمارات البنى التحتية وبنك آخر يتم تأسيسه بناء على مبادرة من قبل دول بريكس عامة والصين خاصة، وهو البنك الآسيوي لاستثمارات البنى التحتية لاستدانة المال وليس إلى مؤسسات النظام المالي العالمي الذي يركز على العملة الأمريكية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. حصل بنك التنمية الجديد (NDB) على تصنيف ائتماني دولي AAA من وكالة التصنيف الائتماني اليابانية في أوت 2019، وحصل على تصنيف + AA في عام 2018 من ستاندرد آند بورز وفيتش على التوالي. هذه التصنيفات أعلى بكثير من متوسط دول بريكس. وتعد التصنيفات الائتمانية المرتفعة جانبًا أساسيا في نموذج الأعمال لبنوك التنمية متعددة الأطراف، وذلك لأن الوصول إلى أسواق رأس المال المحلية والدولية ضروري لعملياتها. تتمتع السندات الصادرة عن المؤسسات التي تحمل تصنيف + AA أو AAA بأعلى جودة ائتمانية. إنّ التصنيف الائتماني المرتفع يمكّن بنك التنمية الجديد من جمع رأس المال بسعر رخيص نسبياً من أسواق السندات والإقراض بأسعار فائدة أقل مما يمكن الحصول عليه من قبل المقترضين السياديين أنفسهم. يمثل انخفاض تكلفة الاقتراض ميزة كبيرة لمؤسسات تمويل التنمية، حيث إنها تمكّن البنوك من تمرير هذه الفائدة في شكل أسعار فائدة تنافسية على قروضها عادة ما يكون لدى البنوك متعددة الأطراف نوعان من الأعضاء: الاقتراض وغير الإقتراض في الوقت الحالي، يعتبر بنك الدوحة الوطني فريدا بين نظرائه العالميين في وجود المقترضين فقط كمساهمين، ولقد حقق البنك أرضية جديدة من حيث أنه لا توجد مؤسسات مالية قابلة للمقارنة في الأسواق الناشئة بجودة ائتمانية عالية وبدون أيّ أعضاء غير مقترضين بدرجة عالية بوصفهم مساهمين. وفي هذا السياق، وافق بنك التنمية الجديد الذي أنشأته مجموعة بريكس للاقتصاديات الناشئة، على قرض بقيمة 300 مليون دولار أمريكي لمشاريع الطاقة في جنوب إفريقيا وقرض آخر بالقيمة نفسها لمشروع النقل في الصين، وقال بنك التنمية لمجموعة بريكس في البيان إن قرضه البالغ 300 مليون دولار لجنوب إفريقيا سيجري تقديمه عبر بنك التنمية للجنوب الأفريقي وسيركز على مشاريع تقلل إنبعاثات ثاني أكسيد الكاربون وتعزز كفاءة الطاقة، وأضاف أنّ قرضه البالغ 300 مليون دولار للصين سيذهب لتمويل خط جديد للمترو في مدينة ليويانغ. وبهذين المشروعين فإنّ محفظة قروض البنك ترتفع إلى أكثر من 5.7 مليار دولار، حيث حرصت روسيا بعد عقد القمة العاشرة في جوهانسبورغبجنوب إفريقيا (2018/7/27) على أنّها في محادثات مع بنك التنمية الجديد بشأن إقتراض أكثر من مليار دولار لمشاريع البنية التحتية موقع العربي الجديد 2018) سجل بنك التنمية الوطني بنجاح برامج سندات بالعملة المحلية في الصين (10 مليارات يوان)، جنوب إفريقيا (10 مليارات روبية)، وهو على وشك الانتهاء من تسجيل برنامج روبل (100 مليار روبل روسي)، مع الهندوالبرازيل لمتابعة التالي حتى الآن، تم استكمال إصدارين لسندات الرنمينبي في الصين، عندما تم جمع 6 مليارات يوان في شريحتين بقيمة 3 مليارات يوان في عام 2016 و 2019 على التوالي يلتزم البنك بإتاحة التمويل بالعملة المحلية لجميع الدول الأعضاء فيه.. قدمت بنوك التنمية متعددة الأطراف معظم تمويلها بالعملة الأجنبية مثل الدولار الأمريكي أو اليورو . ومع ذلك، فإنّ التقلب في أسواق العملات جعل المقترضين أكثر حساسية للتطورات المحتملة للعملة نظرًا لأنّ معظم إيرادات مشاريع البنية التحتية مقومة بالعملة المحلية بأيّ حال من الأحوال، فمن المنطقي أن تتفادى عدم تطابق العملة من خلال رفع السندات في أسواق رأس المال المحلية لأعضائها. حيث اكتسب التمويل الأخضر زخماً كبيراً في السنوات الأخيرة، مع النمو السريع في سوق السندات الخضراء .قام بنك التنمية الوطني بأول زيادة رأسمالية له في الصين كسند أخضر، ويهدف إلى أن يكون مصدرًا منتظما في التمويل الأخضر والمستدام. الأولويات.. صرحت ليزلي ماسدورب هي نائبة الرئيس والمديرة المالية في بنك التنمية الوطني بأنّ لدى البنك ثلاث أولويات واسعة في السنوات الأولى، كانت أنشطة الإقراض موجهة نحو الحكومات والمؤسسات المملوكة للدولة، وبالتالي يتحول التركيز الآن نحو الإقراض للقطاع الخاص وتوسيع نطاق المنتجات إلى ما وراء القروض لتشمل الأسهم والضمانات وتعزيز الائتمان، تماشيا مع النية الأصلية للمؤسسين، ستبدأ عملية توسيع العضوية خارج بلدان بريكس، وستحول التكنولوجيا والابتكار الطريقة التي يتم بها تصميم وتنفيذ الطرق والموانئ والطاقة والبنية التحتية الأخرى كما توجد فرص كبيرة للاستفادة من إمكانات هذه التقنيات الجديدة، بحيث يهدف البنك إلى تبني واستكشاف هذه الإمكانات باعتباره مؤسسة تنموية حديثة والغرض من البنك الوطني للتنمية هو استكمال دور البنك الدولي، وإصدار القروض لتشجيع الاستثمار من أجل استمرار التنمية الاقتصادية في دول بريكس وغيرها من البلدان النامية والتركيز أيضا على الاستثمارات في البنية التحتية والتقنيات الخضراء. إنّ مجرد قيام دول بريكس بإنشاء مؤسساتها الخاصة، قد تؤدي إلى تجسيد نوع من القدرة التنافسية بينها وبين الصندوق الدولي والبنك الدولي، ممّا يجعل مؤسسات بريكس خطوة مهمة في البعد عن نهج المشروطية الصارم. من الواضح أنّ إنشاء NDB و CRA هو خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، حيث هناك حاجة ماسة إلى مزيد من التمويل على سبيل المثال لمشاريع البنية التحتية، وخاصة في البلدان الفقيرة علاوة على ذلك، فإنّ التوزيع الأفضل للقروض على البلدان النامية والناشئة غير المرتبطة بشروط مثل التقشف والخصخصة وتحرير التجارة، هو بالتأكيد تحسن. ومع ذلك يبقى أن نرى ما إذا كانت مؤسسات بريكس الجديدة قادرة على تحقيق هذا التوقع.. هل يمكن للمؤسسات الجديدة أن تؤدي نفس وظائف بريتن وودز؟ أم هي مكملة للمؤسسات السابقة لتخلق نوعا من التوازن في النظام الاقتصادي وبالتالي، يمكن تجسيد العدالة والتشاركية.