نسألُ أطفالنا عن موقف ما، ثمّ ننظر إليهم من الأعلى. نجحظ عيوننا والغضب بأعلى جباهنا. فينظرون هم إلينا خائفين، نحدّق في عيونهم وننتظر إجابةً واضحة عن سؤالنا، لنحكم هل أجوبتهم صادقة أم كاذبة. نسمع الجواب، ونحلّله بمقاييسنا، ثم نبحث عن الحكم الذي سنصدره بحقّهم. «دور المحقّق" هو الدور السيئ الذي قد يلعبه الوالدان مع الأطفال، فاِعلم أيّها المحقّق أنّك خسرت ثقة أطفالك، وذلك يعني أنّك ستستمع للعديد من الأجوبة الكاذبة، ليهربوا من الأحكام والعقوبات التي تنتظرهم. من الصّعب أنْ يميّز الأطفال بين الحقيقة والخيال في سنواتهم الأولى. مثلاً، إذا حدّثونا عن أمر ما، وتأكّدنا أنّه محض الخيال، فيمكننا سؤالهم: هل هو حدثٌ من الخيال؟ إذا أجابوا أنّه حدث واقعي، وأدركنا، نحن الوالدين، أنّه خيالي، أمكننا القول: "نعم، إنّه حقيقي، ولكنه حدث في خيالكم، أيّ في رؤوسكم هنا، ثمّ نشير إلى الرأس". وذلك حتى لا نصف إجاباتهم ب "كاذبة"، وحتى لا يعتقدوا بأنّ الكذب جزء من شخصياتهم. نقوم بهذه العملية كي ندعم خيالهم، وكيلا نقع بخطأ تأطير تفكيرهم بالواقع والمنطق فقط. يقول أينشتاين: "الخيال أهم من المعرفة". فمقدور المنطق أنْ يأخذك من مكان إلى آخر، ولكن وحده الخيال قادر على أخذك إلى مكان آخر أبعد من الوجود. قالت لي صديقتي إنّها عندما كانت صغيرة وعائدة إلى المنزل من بيت جدّها، سألتها أمّها عن حالها. فقالت لها: "صرخ في وجهي شخص ما في الشارع". هنا سألت الأم عمّا حدث وعن الشخص الذي صرخ في وجهها. هذه القصة كلّها كانت من إبداع خيالها، بحسب قول الصديقة، لأنّها كانت بحاجة للاهتمام. أضافت: "شعرت بالحزن على والدتي لخوفها الذي اتضح في عينيها عندما أخبرتها هذه القصة، ولكن لم يكن باستطاعتي أن أقول لها إنّي اخترعتها، وإنّي أبحث عن الاهتمام، الذي كنت افتقدته في تلك المرحلة". بيئة تفاعلية آمنة وصادقة مع أطفالنا يعمل التواصل الجيّد بين الأطفال والوالدين على زيادة الثقة بين الطرفين. يجب الاستماع إلى كلّ التفاصيل التي يسردها الأطفال، ويجب محاولة ضبط المشاعر الغاضبة وإطلاق الأحكام. فالأطفال غير قادرين على فهم أنّ الكلمات والأحكام التي يسمعونها الآن مرتبطة فقط بهذه اللّحظات وهذا الحدث، وليست حكماً كليّاً على كلّ سلوكهم. على الأهل أن يكونوا مثالاً يُحتذى به، لأنّ الأطفال ينظرون إليهم كقدوة، وكلّ معرفة يقدّمها الوالدان هي المعرفة الكاملة والأدق والأنسب بالنسبة إليهم. من هنا تكمن ضرورة الوفاء بالوعود وفهم الأخطاء عند حدوثها. علينا نحن الكبار الذين يقع على عاتقنا مهام تربوية وتعليمية، أن نتذكر دائماً بأنّنا بالغون، ولدينا تجربتنا الخاصة التي أوصلتنا لهذا الحدّ من الوعي. وعلينا الابتعاد عن الجدل مع الأطفال حول آرائهم ونظراتهم للأمور، ولكن في نفس الوقت، من الواجب سماع حججهم بشكل كامل وتفصيلي، مع ضرورة إدراك أنّ معرفة الأطفال تتشكّل من خلال هذه الأحاديث المتبادلة. إنّ العوامل التي تدفع الأطفال لقول الصدق، هي ألاّ نحكم عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم وأجوبتهم، وأن نستمع لحديثهم بشكل جدّي وفعّّال ومتعاطف، بالإضافة إلى إعلامهم بقدر إعجابنا بهم لأنّهم يقولون الحقيقية. على سبيل المثال، عند اعتراف طفل بأنّه كسر صحن بغير قصد، يمكننا دعمه إيجابياً بسبب صدقه. وبعدها، يمكننا تعليمه كيفية نقل الصّحن من مكان إلى آخر بشكل آمن. أداة لممارسة السيطرة والقوّة يؤلّف بعض الأهل العديد من القصص الخيالية المخيفة في حياة أطفالهم لاستخدامها في اللّحظات التي لا يتجاوب فيها الأطفال معهم. من الأمثلة عن هذه الشخصيات: الغولة، والجنيّ الأزرق وشخصيات أخرى تختلف باختلاف البلد والقرية والعائلة. وأحياناً، تعبّر هذه التخيّلات عن أماكن مثل بيت الفئران، وبيت الجرابيع، وبيت الظلام. كلّها أماكن تثير الذعر والقلق والتوتّر والخوف في قلوب الأطفال، ليصبح الخيار أمامهم إما تنفيذ ما يريده أحد الوالدين أو الذهاب إلى أحد هذه الأماكن المخيفة. وبهذه الحالة، يكون الكذب في عداد الأساليب التي يستخدمها الأهل في التربية، وهذا ما يعلّم الأطفال الكذب الذي قد يصبح أمراً مألوفاً بالنسبة لهم. أسباب إخفاء الحقيقة هناك أسباب عديدة تشجّع الأطفال على إخفاء الحقيقة أو الكذب، وأهمها التقليد، أيّ ممارسة نفس العادات وفعل ما يفعله المحيطون بهم. وهناك الكثير من الأطفال الذين يقولون أيّ شيء غير الحقيقة خوفاً من العقاب، أو من أجل لفت الانتباه. من أحد السلوكيات الدفاعية التي قد يستخدمها الأطفال للدفاع عن ذواتهم هو قول أيّ شيء قد لا يصيبهم بضرر. لكذب الوالدين آثار سلبية على الأداء النفسي والاجتماعي للأطفال في وقت لاحق من الحياة، وإنّ كذبَ الوالدين على أطفالهم يزيد من فرصة كذب الأطفال في كبرهم، وذلك بحسب دراسة حول الكذب والتنشئة غير السليمة التي أجراها علماء نفس وباحثون في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة باشتراك 379 شخصاً. ونُشرت الدراسة في مجلة علم نفس الطفل التجريبي في جانفي عام 2020 بعنوان "الأبوة والأمومة... طريق الكذب في مرحلة الطفولة ترتبط بنتائج النمو السلبية في مرحلة البلوغ".