إذا كان لمأساة القدس اليوم أن تذكرنا بشيء فهو تلك العبارة التراجيدية النادرة التي نقلها التاريخ عن أم عبيد الله آخر خلفاء الأندلس عندما قالت وهي تقرع ولدها الباكي بعد أن سلم قصره ومملكته للفاتح الاسباني : تبكي كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال . فعندما يرى المواطن العربي ما يجري في القدس وللقدس على أيدي سلطات الاحتلال من تهويد شامل للمدينة المقدسة ومصادرة وهدم اكبر عدد من المنازل والمساجد والمقابر والآثار , وتهديد جميع الأحياء والبلدات العربية في المدينة بهدف إلغاء الوجود العربي فيها ووضع اليد العبرية نهائيا عليها ، وبالمقابل يرى الرد العربي العام على شكل استجداء وتوسل للإدارة الأمريكية تارة وللهيئات الدولية تارة أخرى عساهم يضغطون على تل أبيب ودون جدوى . لا يملك سوى القول حسبنا الله ونعم الوكيل . لقد تجاوزت سلطات الاحتلال الصهيونية في بطشها وعنصريتها ضد الشعب الفلسطيني بشكل عام وضد المقدسيين بشكل خاص كل الأعراف والقوانين الدولية , فهي لا تستهدف الحاضر والماضي العمراني للعرب في القدس فحسب ، وإنما تستهدف الهوية الدينية للمدينة المقدسة ببناء الكنس اليهودية وسط الأحياء العربية في البلدة القديمة ممثلا في الكنس الضخم الذي يتم تشييده على حساب المسجد العمري التاريخي، وكنس أخرى يتم زراعتها تحت الأقصى وفي محيطه , والتخلص من أكبر عدد من المقدسيين بتجريدهم من مواطنتهم المقدسية تمهيدا لطردهم من القدس واستقطاب المزيد من المهاجرين اليهود للإقامة في القدس . وجعل المقدسيين مجرد أقلية في مدينة يهودية، ومن ثم التأثير على أي حل سياسي مستقبلي للقدس . وإذ تستهجن الشعوب العربية والأحزاب والمنظمات الشعبية هذا العجز الرسمي العربي الذي لا يمكن وصفه إلا بالتخاذل , وكأن هناك اتفاقا صامتا قد حصل تسكت بموجبه العديد من الدول العربية عن ضم القدس نهائيا لإسرائيل مقابل صفقة تضمن من خلالها واشنطن استقرارهم وصداقتهم . وإلا ما الذي يفسر غياب لجنة القدس والقمة العربية والإسلامية عن تذكير العالم بأن القدس ومستقبلها قضية أساسية وجوهرية ليس بالنسبة للفلسطينيين فحسب ولكن قبل ذلك لجميع الشعوب العربية والإسلامية . ووضع الخطط والعقوبات التي يمكن لهذه الدول التي تجمع ما يقرب من مليار إنسان , وتضم بلدانا ذات قدرات عسكرية واقتصادية كبيرة , أن تتخذها إزاء إسرائيل إذا قررت الاستمرار في مشروعها ألتهويدي والضرب عرض الحائط بمشاعر العرب والمسلمين الوطنية والدينية . وإذا لم يكن التخاذل هو الذي يفسر هذا السكون المريب على الإجهاز الأخير على القدس العربية وقطع آخر شريان فيها يربطها بالتاريخ والمجتمعات العربية والإسلامية , فما الذي يفسره , وكيف يمكن قبول هذا الغياب الكامل تقريبا لردود فعل عربية ذات معنى ؟ هل فقد المعنيون مشاعرهم الوطنية بل الدينية الطبيعية التي تحثهم كجميع شعوب الأرض على الدفاع عن مقدساتهم التاريخية ؟ هل فقدت القدس صفتها القدسية وصارت مدينة عادية كغيرها من المدن تخضع للحسابات السياسية البسيطة وللصفقات الدبلوماسية من دون أن تستثير أي حمية دينية ؟ أم هل اقتنع هؤلاء بأن الحال في إسرائيل قد قطع الطريق على أي أمل في استعادة القدس بعد توحيدها كعاصمة أبدية لإسرائيل , وان التضحية بالقدس أصبحت ضرورة لا مفر منها لعقد سلام مع إسرائيل ؟ وإذا كان من الجنون التفكير بإمكانية انتصار عربي عسكري نهائي على إسرائيل بوضعهم الراهن , لكن سيكون من الجنون كذلك أن يسمح العرب والمسلمين لإسرائيل بالاستيلاء على القدس ونزع صفتها وتهويدها . ولو حصل ذلك لن يكون بمقدور العرب اكتساب أي مصداقية أو احترام , وسوف يكتبون على أنفسهم الخنوع لعقود طويلة قادمة أمام جميع الدول والشعوب . كان في إمكان العرب إلقاء المسؤولية على الفلسطينيين طالما كان الأمر يتعلق بأراض فلسطينية عادية , وقد نجحوا بالفعل في التملص من مسؤولياتهم التاريخية في هذه القضية بحجة أنهم ليسوا ملكيين أكثر من الملك . لكن ليس بإمكانهم فعل الأمر نفسه في ما يتعلق بالقدس , أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين , والأمة التي تتخاذل في الدفاع عن مقدساتها لا تهدم مقومة من مقوماتها فحسب ولكنها تفقد احترامها لنفسها وإيمانها بذاتها وثقتها بمستقبلها . إنها تتحول إلى جماعة همجية. إن ذلك لا يقلل من صمود الشعب الفلسطيني وتشبثه في أرضه والدفاع عن مقدساته , ولا من أهمية وقيمة انتفاضاته , ولا من الدعم السياسي والمعنوي الذي يمكن أن يقدمه العالم العربي والإسلامي الواسع . لكن يبقى مصير القدس مرتبط بالعرب أساسا وبما يمليه عليهم واجبهم القومي والديني وتراثهم الثقافي وحضارتهم. ------------------------------------------------------------------------