لاتزال ليبيا التي أطاحت قبل سنتين بنظام الزّعيم الراحل معمّر القذافي تبحث عن طريق الخلاص وإقامة الدولة المنشودة على أسس تحفظ الأمن والوحدة وتضمن الاستقرار، وهي كلها عناصر لازالت غائبة ومغيّبة وتعيق تجسيد الأهداف التي رسمها الليبيون عندما نشدوا التغيير في 17 فيفري 2011. ليبيا اليوم هي عنوان كبير لعدم الاستقرار وللفلتان الأمني الذي أصبح متجليا في العنف والتفجيرات التي تهزّ هذه المدينة والأخرى، وخاصة بنغازي مهد التغيير، وفي استعراضات القوة التي تُظهرها الميليشيات المسلّحة التي أضحت الفاعل الأساسي في الساحة الليبية، فكل شؤون البلاد وحتى قوانينها تفرضها هذه الميليشيات بقوة السّلاح الذي بات يشكّل هاجسا حقيقيا، احتار قادة ليبيا الجدد في كيفية التخلص منه برغم ما يبذلونه من جهود. السّلطة بيد المليشيات المسلّحة يشكّل السّلاح ظاهرة خطيرة تهدّد ليبيا، فسلطة الدولة تكاد تكون غائبة أمام سلطة المليشيات، والتي تستغل الوضع الانتقالي الصعب لتفرض مطالبها وتنتزع رغباتها بالقوة، وقد رأينا كيف أنّ المسلّحين حاصروا الوزارات السيادية والبرلمان ليجبروا نوّاب الشعب على التصويت على قانون العزل السياسي الذي يقصي ويبعد ما يصفونهم بأزلام النظام السابق. ولا تتوقف مطالب هذه المليشيات، فكلّما نفّذ مطلب طرحت آخر، وآخر مطالبها إقالة رئيس الوزراء علي زيدان الذي يبدو بأنه ماض إلى الاستجابة لها من خلال إحداث تغيير حكومي وإبعاد بعض الوزراء. وانتشار السّلاح في صفوف الناس وبشكل واسع وفوضوي، يضع الأمن الليبي على كفّ عفريت، ويسلب إرادة المسؤولين الذي يجدون أنفسهم تحت رحمة المسلّحين وابتزازهم ومطالبهم اللاّمتناهية. ورغم الجهود المبذولة إلى حد الآن لنزع السّلاح وتفكيك المليشيات وإدماج عناصرها واستعابهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية وفي الحياة المدنية، إلاّ أنّ المهمة لا تحقّق تقدّما كبيرا ولا تبدو سهلة بالمرة بالنظر إلى الانتشار الواسع للسّلاح والرفض الشديد لتسليمه. ومن أساليب استيعاب المسلّحين وتأهيلهم، خطّطت الحكومة الليبية لتوفير مناصب عمل وتشجيع الشباب على خلق مشاريع صغيرة ومتوسطة بالتعاون مع وزارة الاقتصاد، كما تسعى لتدريب وتأهيل الشباب في تخصصات منتجة ودفعهم إلى التعليم، وإرسال الكثيرين لمواصلة الدراسة في االخارج بمعدل 5 آلاف شاب كل عام. كما تعمل الحكومة على دمج المسلّحين في أجهزة وزارة الداخلية، وقد قدّم 50 ألف شاب ملفّاتهم للحكومة التي هي بصدد إنشاء جهاز للحرس الوطني لدعم الجيش والشرطة، وسيكون تابعا لوزارة الدفاع ورئاسة الأركان العامة، ومهامه حماية الغابات والطرقات والمنشآت النفطية والمرافق الحيوية الواقعة خارج المدن وفي الصحراء. الأمن على صفيح ساخن لن يخطئ بكل تأكيد من يقول بأنّ ليبيا على صفيح ساخن، فالمليشيات هي سيّدة الشوارع والحكومة تبدو أمامها عاجزة لا حول ولا قوة لها، والصّوت الأعلى هو لصوت العنف الذي أخذ في الأشهر الأخيرة منحنيات تصاعدية، إذ لا يكاد يمرّ يوم دون أن يقع انفجار أو اغتيال أو اعتداء مسلّح يستهدف حينا رجال الأمن وآخر التمثيليات الدبلوماسية الأجنبية وأحايين كثيرة المواسات الاقتصادية والمدنية، وحتى الكنائس لم تسلم في خطوة تنذر بتحويل التصعيد إلى عنف طائفي إذا دخلته ليبيا فلن تخرج منه سالمة أبدا. الفلتان الأمني المتصاعد، دفع العديد من البلدان الغربية إلى إجلاء بعض موظفيها من سفاراتها على غرار الولاياتالمتحدةالأمريكية التي قرّرت في 11 ماي تقليص موظفي ممثليها في طرابلس، بعد أن سبقتها قنصليات غربية إلى ذلك بسبب المخاطر الأمنية المتفاقمة. فبريطانيا أجلت بعض موظفيها، وألمانيا أغلقت أبواب سفارتها ووضعت ما بقي من موظفيها في مجمّع مشدّد الحراسة في العاصمة طرابلس، وقد جاء هذا التحرك الغربي إثر الهجوم الذي استهدف السفارة الفرنسية في العاصمة الليبية أفريل الماضي، والذي أرغم باريس هي الأخرى على تقليص مستخدمي سفارتها وغلق المدرسة الفرنسية في طرابلس. وقد أعاد الهجوم على السفار ة الفرنسية إلى الأذهان الاعتداء الذي استهدف القنصلية الأمريكية في بنغازي وتسبّب في مقتل أربعة أمريكيين بينهم السفير “كريستوفر ستيفنز"، ومعلوم أنّ الادارة الأمريكية التي لا يمكنها تفويت هذا الاعتداء أو ترك الجناة دون عقاب، وضعت خطّة عسكرية للتدخل في ليبيا بشكل محدود كما قالت تنفّذها القوات الخاصة (المارينز) لتنفيذ عمليات اعتقال واغتيالات ضد الأشخاص المتورّطين، وقد حدّدت هوّيتهم بفضل تحقيقات “الأف بي أي"، وتشمل الخطة أيضا تنفيذ عمليات قصف دقيقة ضد مراكز تدريب المسلّحين في مختلف أنحاء دولة ليبيا الحرّة. وزارات السّيادة تحت الحصار! مازاد من تخوّف الأجانب ومسارعتهم إلى تقليص وإجلاء موظفيهم الدبلوماسيين، أنّ الوزارات السيادية الليبية نفسها لم تعد تقوى على حماية نفسها بعد أن أصبحت على مدار أيام تحت حصار ورحمة المسلّحين، خاصة وزارتي العدل والخارجية للمطالبة بإقرار قانون العزل السياسي، وهو الأمر الذي تحقّق لهم تحت ضغط السلاح، وقد استرسل المسلّحون في مطالبهم التعجيزية ورفعوا سقفها مستهدفين هذه المرة إبعاد رئيس الحكومة علي زيدان نفسه، وفتح مكتب لهم يكون تابعا للخارجية. وأمام هذا الوضع الشاذ والخطير الذي جعل الوزارات السيادية تبدو بدون سيادة، قدّم وزير الدفاع محمد محمود البرغثي استقالته لكن تحت ضغط زيدان تراجع عنها، وهو يواصل مهمّته الشاقة إلى حين أن يعفيه قانون العزل من منصبه على اعتبار أنّه وبعض الوزراء الآخرين شغلوا مناصب هامة في العهد البائد، حيث تولّى هو منصب قائد القوات الجوية أي أنّه من أزلام النظام السابق كما يقول المسلّحون، وعليه أن يحضّر حقائبه خاصة وأن قانون العزل سيطبّق الشهر القادم. قانون العزل يخرج من فوهات السّلاح ينص قانون العزل السياسي الذي أقرّه البرلمان الليبي مؤخرا، على إبعاد من تولّى أي منصب في النظام السابق من شغل جملة من الوظائف والمهام حدّدها القانون بالتفصيل مثل السلك الدبلوماسي والمؤسسات التعليمية وإدارة شؤون الدولة والاقتصاد، والإتحادات...وسيسرى لمدة خمسة أعوام ويطبّق بدءا من الشهر القادم. ومعلوم أنّ هذا القانون الذي خرج عبر فوهة سلاح المليشيات، أثار ولازال جدلا كبيرا بين من يعتبره حتمية للطلاق البائن مع النظام السابق، وبين من ينظر إليه على أنّه مغتصب لحقوق الإنسان ويتعارض معها وللجانبين مبرّرات وذرائع متباينة. ولنبدأ بالمؤيّدين الذين يجمعون على أنّ العزل السياسي ليس مطلبا، بل حقا لأنّ القذافي كما قال أحدهم لم يكن يمارس ديكتاتوريته بمفرده بل هناك من كان إلى جانبه وساعد على استمرار حكمه أربعين عاما. ويضيف المتحدث أنّ الشعب لا يريد أن يرى المنظومة التي سرقت ونهبت وظلمت وقتلت تعود للمشاركة مرة أخرى في الإدارة الجديدة للبلاد، ولا أعتقد كما يختم هذا المتحدث أنّ شعبا في شمال إفريقيا تعرّض للظلم والتجهيل والاضطهاد مثل الشعب الليبي حتى أصبحنا أضحوكة لدي الشعوب... مقابل المؤيّدين، هناك طبعا المعارضون الذين يجزمون بأنّ قوانين العزل فشلت في كل الدول التي تبنّتها، ويوردون بأنّ أول مرة ظهر وطبّق فيها هذا القانون كان في ألمانيا بعد هزيمة النازية أمام الحلفاء، حيث صدر قانون يعزل كل من عمل مع “هتلر" من المشار كة في الدوائر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لكن بعد عام تمّ إلغاؤه، إذ اكتشف أنّه يتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان، ويزرع روح الانتقام والشقاق والتفرقة. المعارضون يسترسلون في سرد ذرائعهم بالقول أنّ العزل مخالف للقانون والدستور، الذي يقوم على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات والواجبات، ولا جريمة أو عقوبة إلاّ بنص وبحكم قضائي، لهذا فقانون العزل السياسي حسبهم منافي لحقوق الانسان ومبادئ الديمقراطية. القانون المثير للجدل حسب رئيس الوزراء السابق محمود جبريل، يستهدف أكثر من 500 ألف ليبي، الأمر الذي سيتسبّب في تفريغ الدولة من كوادرها، فإقصاء من عملوا مع القذافي حسبه سيخلق فراغا سياسيا وإداريا داخل أطر الدولة تكون هذه الأخيرة أكبر المتضرّرين منه. وتأييدا لرأيه يضيف محلّلون بأنّ العزل السياسي سيقصي مسؤولين ذوي خبرة، ويقلّص من وجود كفاءات تحتاجها ليبيا لإعادة الاعمار، ولا يوجد بديلا لها مثل محمد المقريف رئيس المؤتمر الوطني، الذي قام بمهام رئيس الدولة، ومحمود جبريل رئيس تحالف القوى الوطنية وأول رئيس للوزراء بعد الثورة وعلي زيدان رئيس الحكومة. كما أنّ القانون يعتبر بمثابة جزاء سينمار بالنسبة لبعض الشخصيات التي كانت من رجال القذافي ثم ما لبثت أن ابتعدت عنه والتحقت بالشعب الراغب في التغيير، وقادت “ثورته" مثل الكيخيا واللواء عبد الفتاح يونس وعلي حدوث العبيدي ومصطفى عبد الجليل . المصالحة الوطنية...الطريق الوعرة المعارضون للقانون العزل يعتبرون هذا الأخير ضربة للمصالحة، لأنّه يعمّق الفجوة بين أبناء الشعب الليبي، ويضرب مصالحهم ويبث روح البغضاء والانتقام عوض استئصالهما. الليبيون وبالنظر إلى خصوصية المرحلة مجبرون على تجاوز مظاهر التعصب والحقد على أتباع النظام السابق وتقديم مصلحة الوطن، إذ لا يعقل إبعاد موظف من منصبه الذي كان يقتات منه في العهد السابق بجرّة قلم. إن هذا الاقصاء والابعاد الذي جاء ليصفّي حسابات حزبية وشخصية ضيّقة حسب كثيرين يشكّل خيبة أمل للمصالحة ومن شأنه أن يحوّل المعزولين إلي صفوف المعارضة، فالقانون الذي أُقرّ غصبا يعطي إشارة انطلاق لتأسيس أكبر وأقوى تجمّع معارض. كما أنّه يجعل الاخوان كما كتب أحدهم أكبر المستفيدين، إذ سيفتح أمامهم طريق الهيمنة الكاملة على مراكز القرار كما تمّ في دول ما يسمى بالربيع العربي. ليبيا اليوم بحاجة إلى سواعد جميع أبنائها للمشاركة في إعادة بنائها، والمؤكد أنّ سياسة الاقصاء لن تساعد في إقامة دولة القانون والحرية، كما أنّ فوهة السلاح التي تسيّر شؤون الشعب الليبي وستقود الوضع إلى مزيد من التصعيد المرشّح لأن يدخل ليبيا إلى حالة من العنف المزمن، ويبقى من الضروري استلهام الدرس من التجربة العراقية، فقانون العزل والاقصاء هناك جرّ بلاد الرّافدين إلى هاوية العنف المزمن.