على غرار كل دول "الربيع المريع"، مازالت ليبيا بعد عامين من الإطاحة بنظام معمّر القذافي كالسفينة التّائهة في بحر هائج، تقاوم الأمواج العاتية وتحاول الوصول إلى برّ الأمان لكن دون جدوى، إذ ما زالت عاجزة عن تحديد طريق الخلاص بعد أن أضاعت بوصلة الإستقرار وباتت رهينة للفوضى الأمنية والإخفاق السياسي والإنحدار الإقتصادي وتصدّع بنية المجتمع، وأصبحت وحدتها الترابية مهدّدة، إذ حمل بعضهم معاول التقسيم وشرعوا في تفتيت البلاد بهدف إنشاء أقاليم ومناطق مستقلة... لم يكن التّغيير الذي حصل في ليبيا قبل عامين سهلا، فلولا تدخل "الناتو" لربّما تكرّرت الحالة السّورية بكل تفاصيلها الخطيرة... ومثلما كان هذا التغيير دمويّا وصعبا، فإنّ إعادة بناء الدّولة اللّيبية الجديدة يبدو أكثر صعوبة، بالنظر إلى التحدّيات والعراقيل التي تقف حجر عثرة في طريق عودة الأمن والإستقرار، وإقامة مؤسسات حكم قويّة لإدارة شؤون البلاد التي تعيش حالة تيهان حقيقي وأصبحت أوجاعها الداخلية مصدر ألم كبير للجوار. إنفلات أمني وسلاح في كل مكان لا يخفى على أحد أنّ أكبر هاجس يواجه ليبيا هو الإنتشار الفوضوي للسلاح والمليشيات التي داست على القانون وأصبحت تبثّ الرّعب في أوساط الشعب، وتتدخل في قرارات السلطة التشريعية وتظغط على الحكومة لتحقيق مآربها الخاصة. ورغم الجهود التي تبذلها السّلطات الإنتقالية لاستعادة الملف الأمني إلى قبضتها، وجمع السّلاح وإقناع المليشيات بالإنخراط في جهازي الأمن والجيش، فإنّ الإستجابة تبدو ضعيفة. وقد أخذ انتشار السّلاح بكل أنواعه وحتى الثقيل منه، يتحوّل إلى خطر حقيقي ليس فقط على ليبيا أين أصبح أي خلاف بسيط بين هذه المليشيات يتحوّل إلى معارك طاحنة تخلّف ضحايا كثر، بل على الجوار أيضا، إذ ساهم تهريب المخزون اللّيبي من السّلاح أيام حكم القذافي الأخيرة، في تعزيز ترسانة الجماعات الإرهابية المنتشرة في المنطقة، وبالتالي ضاعف من خطرها وتهديداتها، وقد كانت الجزائر السبّاقة إلى التحذير من هذا الخطر، لكن لا أحد استمع إليها.. لقد أدركت ليبيا خطورة الانتشار الفوضوي للسّلاح، وأعلنت جملة كبيرة لتجريد المليشيات من أسلحتها ومن المقرّات التي استولت عليها، وأقرّت مصادر حكومية أنّ عدد مقرات المجموعات غير الشرعية في العاصمة طرابلس وحدها يتجاوز 540 مقرا، لكن إلى حدّ الآن لا تبدو العملية ناجحة أو سهلة، بالنظر إلى الرّفض المطلق الذي تبديه هذه المليشيات للإنخراط طواعية أو حتى بالقوّة في عملية تسليم السّلاح والمقرّات، لهذا تتحرّك الداخلية بحذر وفي كثير من الأحيان تتريّث تاركة الفرصة للحوار، على اعتبار أنّ استخدام القوّة ستكون تبعاته خطيرة. مع العلم أنّ هذه المجموعات المسلّحة تتحالف فيما بينها وتتعاون لإفشال حملة نزع الأسلحة، إذ أنّ كل واحدة تُبلغ الأخرى بخبر الحملة فيفرّ المسلّحون بعتادهم إلى وجهات أخرى، فارضين قانون الفوضى والغاب الذي يرهن مستقبل الدولة اللّيبية الجديدة. ولإدراك خطورة هذه المليشيات، يجب أن نعلم بأنّها تملك حتى الأسلحة الثقيلة، وهو الأمر الذي يجعل الشرطة عاجزة عن مواجهتها، ويتطلّب أن يتولى الجيش نفسه مهمة حلّها وهو أضعف من أن يواجهها، كأنّها تملك سجونا سرّية وأموالا طائلة، ممّا ساعد على "تغوّلها" وحوّلها إلى أكبر تهديد وأخطر تحدّي ما لم يتم تجاوزه فإنّ ليبيا لن تخطو خطوة في طريق الاستقرار وإقامة الدولة الديمقراطية المنشودة. المليشيات تشلّ الحياة السياسية بعد عامين على رحيل القذافي، ما زالت ليبيا تتحسّس طريق الاستقرار، إذ لم تنجح هيئات الحكم المؤقت المتعاقبة ولا الحكومة الانتقالية أو المؤقتة في تحقيق الأمن، وهو الرّقم الصّعب في معادلة بناء الدّولة الجديدة. وقد أثّرت حالة الإنفلات الأمني هذه على الحياة السياسية، فتراجعت أنشطة الأحزاب ولم تتمكّن المؤسسة القضائية من العمل وفرض سلطتها بسبب التهديدات اليومية التي يتلقّاها القضاة، والإغتيالات المسجّلة في صفوفهم. وساهم مناخ الخوف الذي زرعته المليشيات في تعطيل ملفات العدالة الانتقالية والمصالحة، ومحاكمة المتورّطين في أعمال العنف والقتل، كما ساهم في شلّ النشاط السياسي بعد أن ارتفعت أرقام الإغتيالات في بنغازي فقط إلى أكثر من مائة قتيل، وأصبحت هذه المليشيات تقرّر أي قانون يجيزه البرلمان وأي قانون يرفضه، وقد وقفنا قبل أشهر على اقتحامها لمقر المؤتمر الوطني العام لإرغام أعضائه على تمرير وتزكية العزل السياسي، كما شهدنا محاصرتها للعديد من الوزارات قصد ابتزاز المسؤولين لانتزاع مكاسب سياسية ومادية بقوّة السّلاح. وبلغت غطرسة هذه المجموعات إلى درجة اختطاف رئيس الوزراء علي زيدان في العاشر أكتوبر الماضي، وقد اتّضح فيما بعد أنّ الخاطفين يتبعون جهاز مكافحة الجريمة، الأمر الذي يطرح علامات استفهام كبرى عن الحاكم الفعلي في ليبيا. ويشكّ الكثير من المراقبين في امكانية حدوث تقدّم سياسي أو مؤسساتي طالما بقي السلاح حرّا طليقا في يد المجموعات التي تجرّ البلاد إلى انزلاقات خطيرة، إذ تشهد بنغازي توتّرا أمنيا خطيرا من خلال عمليات الاغتيالات والانفجارات التي تستهدف مباني حكومية، بالإضافة إلى شخصيات عسكرية وأمنية وناشطين سياسيين، وامتدّ التوتّر الشديد إلى العاصمة طرابلس التي شهدت في الأيام الأخيرة مواجهات دموية بين مجموعات مسلّحة. والتهديد لا يتوقّف عند استهداف اللّيبيين بل يطال أيضا القنصليات والدبلوماسيات، فقد وقفنا على اغتيال السفير الأمريكي، واستهداف السفارة الفرنسية والروسية التي أجْلَت بعض دبلوماسييها خوفا على حياتهم من عنف أعمى أصبح يتربّص بالأمن اللّيبي. ويخشى هؤلاء المراقبين أن يتحوّل ملف الأمن إلى عائق أمام أوّل انتخابات دستورية مرتقبة في ديسمبر، إذ لم يتجاوز عدد المرشّحين لانتخابات اللّجنة المعنية بكتابة الدستور بضع مئات نتيجة حملة التّرهيب والاغتيالات التي تشنّها المليشيات، وهذا عكس انتخابات المؤتمر الوطني العام في جويلية 2012 الذي شهد إقبالا كبيرا للمترشحين. ومعلوم أن اللّيبيين يعوّلون كثيرا على التوافق لوضع الدستور والتصويت عليه، وإقراره ليكون اللّبنة الأولى في بناء الدولة اللّيبية على أسس متينة. الوحدة على المحك والمصالحة طريق وعر إنّ الاستعصاء في معالجة الملف الأمني نتج عنه الكثير من المشاكل والصّعوبات، ولعلّ أهم هذه الصّعوبات هو تصدّع بنية المجتمع والتهديد الذي أصبح يطال وحدة البلاد الترابية والسكانية، مع تنامي الرّغبة الانفصالية لدى البعض خاصة أولائك الذين يدعون للفدرالية والمناطقية. والخطر الذي يشكّله هؤلاء كبير رغم أنّ السلطات الانتقالية تقلّل من وقعه أو تأثيره على وحدة ليبيا، ففي نهاية أكتوبر الماضي أعلن إقليم برقة انفصاله برئاسة أحمد الزبير السّنوسي، وشكّل حكومة موازية وقوّة دفاع من 20 ألف جندي لتتولّى شؤون محافظات هذا الإقليم الأربعة، وهي أجدابيا، بنغازي، الجيل الأخضر وطبرق. السلطات اللّيبية كما سبق وقلت قلّلت من أهمية هذا الحدث على اعتبار أنّ الأقليم أُعلن كيانا فيدراليا اتّحاديا مرّتين دون أن يتجسّد الإعلان على أرض الواقع، لكن الوضع اليوم متغيّر، خاصة مع الضغط الذي تمارسه المليشيات المسلّحة والتي قد يستغلّها من يهمّهم نسف الوحدة اللّيبية. وبالإضافة إلى التحدي الأمني وخطر المساس بوحدة البلاد، تواجه القيادة المؤقّتة في ليبيا صعوبات جمّة لإقرار المصالحة وإنجاج الحوار الوطني الشامل الذي أطلقته، والذي من شأنه أن يعزّز العمل بقانون العدالة الإنتقالية، ويقضي على الرغبة في الثأر والاقصاء، ويدفن الأحقاد، ليسمح بعودة الاستقرار وتحريك عجلة الاقتصاد والتنمية، ومن خلال ذلك ليجعل الليبيين يقطفون ثمار التغيير الذي ينشدونه، وليس الأشواك كما هو حاصل اليوم. السلطات اللّيبية المؤقتة في وضع لا تحسد عليه، فحتى الثروة النفطية أصبحت رهينة الاحتجاجات والأضرابات والنّهب، الأمر الذي رفع الخسائر في هذا القطاع الذي يساهم بنسبة 95 ٪ من إيرادات البلاد إلى 7 مليار دولار، والأمر ينعكس طبعا على الوضع الاجتماعي الذي أخذ يتأزّم بشكل ملحوظ ويدفع بالشعب إلى الخروج للشوارع للمطالبة بانتخاب برلمان جديد وتشكيل حكومة أزمة، تكون قادرة على وضع القطار على السكة والانطلاق نحو بناء ليبيا الجديدة التي تتّسع لجميع اللّيبيين وتستظل بالقانون والعدالة. ويعتقد كثيرون أنّه مثلما اعتمدت ليبيا على "الناتو" لمساعدتها على التخلّص من النظام السابق، فقد تضطرّ للاستنجاد بالخارج مرّة أخرى لاستعادة أمنها واستقرارها الداخليين، واللّذين يلقيان بظلالهما القاتمة على المنطقة.