على صباح باكر حزين استيقظتُ هذا السبت 28 ديسمبر، هو صوت الصديق الشاعر عبد الحميد شكيل، يعلمني هاتفيا بالخبر الفاجعة. فما أقساه فراق لصديق عزيز هو واحد من الأصوات التي خطت دربها بتألق وتفوق في إثبات الذات، فنهلت وتشبّعت بالقيم الحياتية الجميلة ونذرت نفسها لتحقيق الطموح المستبد بغيرة مشحونة حبا وتعلقا بالقيم الفنية والجمالية التي ينشدها حامل القلم من شرف واستحقاق، دفاعا عن أهمية الثقافة ورقي الفكر. هو صاحب "الريشة الذهبية". الأديب والصحفي والحقوقي والفنان عمر بوشموخة يرحل عن دنيانا في صمت، يختطفه الموت بعد أن عاد له الأمل في استرجاع عافيته على إثر نوبة قلبية كلّفته فترة استشفاء منذ حوالي شهرين. فقبل ثلاثة أيام من الفاجعة بعث فقيدنا برسالة اطمئنان على موقعه الاجتماعي "فيسبوك"، جاء فيها: "شكرا لكل الذين وقفوا إلى جانبي وساندوني في محنتي الصحية التي ألمّت بي مؤخرا، وأقول للجميع أنّ العملية الجراحية التي أجريت على قلبي كلّلت بالنجاح وأنا الآن أتماثل للشفاء". ولأنّ للدهر أحكامه،حياة عمر نهايتها كانت سكتة قلبية مميتة، أطفأت هذه الشعلة المضيئة في سماء الثقافة والفن والإبداع، وفي حقل الصحافة المكتوبة منها والمسموعة. وتشاء الصدفة أن يلتئم انطفاء هذه الشعلة الأدبية والإعلامية مع ذكرى رحيل الرئيس هواري بومدين، الذي كان شعلة زمانه في حقل السياسة وإدارة الحكم..وكأنّ السابع والعشرين ديسمبر بات رمزا لرحيل العظماء، فما أعظمك في بساطتك ونبوغك يا عمر! الذي نفقد في رحيلك رجل الثقافة الموسوعة بكل امتياز، كما نفتقد فيك الطيبة والصدق والأخلاق السامية، وأبلغ الصفات الإنسانية. بالكلمة والصوت كان تعبيد الدرب، ومن تداعيات الزمن المسكون بإرهاصات هذه الدنيا، أخذ فقيدنا حظّه من هذه الحياة وأخذت الحياة حظها منه. استرسل بتلقائية وعفوية ودراية في نسج علاقة حميمية بين الذات وأدوات التعبير عن فواصل التحول والتواصل والاندماج في مسار حياتي، متميّز برؤية الفنان المثقّف والصحفي القدير. وبكل هدوء ينتزعه الموت من عالمنا فينزوي عن حياة منحته ومنحها جاذبية خاصة في التعاطي مع جماليات الوجود. وكم كان الأفق مفتوحا على رؤية متميزة باسهامات نوعية في الحراك الثقافي والإبداعي، لكن الأجل لم يمهله لبلوغ مدارك كاتب كبير خرج لتوّه من مسار مهني طويل فتفرّغ للكتابة ومداعبة الريشة دون سواها. والواقع أنّ السيرة الحقيقية لفقيدنا الراحل عمر بوشموخة ارتبطت بالقلم ودوّنت في ما كتبه، وكانت ثمرتها المؤلفات التي تركها لنا في مجالات عدة تعكس اهتماماته بالأدب والصحافة والقانون والفن. هو موسوعة متعدّدة المواهب تنهل من تداعيات الراهن الحياتي في مختلف فواصله وتجلياته لتعيد قراءة الأشياء بلغة المثقف المبدع، الذي يجيد إضافة الجديد للتراكم الإبداعي والثقافي. وهو ما يتجلى في كتبه الثلاثة :«الإبداع في الفن الأدبي" ثم "جماليات الموسيقى العربية" وآخرها "الصحافة والقانون"، وثلاثتها تشكّل صميم وجوهر الاهتمام الذي ظل يشغل بال فقيد الأدب والصحافة عمر بوشموخة. شخصيا، علاقتي جدّ قوية بالفقيد، نسجناها منذ أزيد من ثلاثة عقود. بدأناها بالتعارف عن بعد حين كنت صحفيا في بداية المشوار بجريدة "الشعب" منذ منتصف السبعينات، وحين كان ينشر مقالاته آنذاك في الدوريات ذات الطابع الثقافي. وما لبثنا أن التقينا في عنابة في النصف الأول من الثمانينات. هي الصدفة التي جمعتما نحن أبناء الشمال القسنطيني في هذه المدينة الجميلة، التي طاب لنا المقام في رحابها فاندمجنا في ثناياها تزامنا مع إتمام ترتيبات التحاق فقيدنا بالمجال الإعلامي كصحفي محترف بجريدة "النصر" الصادرة في قسنطينة. واكب ملحقي "العناب" ثم "النهار" المتفرّعتين عن هذه اليومية العريقة للشرق الجزائري، ثم ما لبث أن أشرف على قسمها الثقافي فاهتم خصوصا بالإنتاج الإبداعي للمواهب الشابة. وفي مرحلة لاحقة، كان ضمن أول طاقم صحفي يخوض أول بث ينطلق من إذاعة عنابة سنة 1996، واشتهر في تجربته الأولى على الأثير ببرنامجين رفيعي المستوي افتقدنا إليهما كثيرا منذ تقاعد الفقيد قبل حوالي سنتين. ويتعلق الأمر بكل من "كاتب وكتاب" و "من ذاكرة الموسيقى العربية". وبالموازاة مع عمله الإذاعي، أذكر بفخر واعتزاز أنّه كان أول المشجّعين والدّاعمين لي لإصدار أسبوعية "أخبار الشرق" فلم يتأخّر ليكون ضمن أول فوج توكل له مهمة إخراج هذا العنوان إلى النور ابتداء من شهر جوان 1999. ترأّس القسم الثقافي وأصدر حدائق الإبداع، مبديا مهارة واحترافية عاليتين زادتا من سمعة الجريدة في الوسطين الثقافي والإعلامي، فكانت بمثابة المنبر المفتوح على الأقلام الجادة والفعاليات الثقافية بمدينة عنابة خاصة والشرق عموما. في تلك الأثناء، كان فقيدنا يحدّثني عن مشروعين طموحين يؤرّقانه كثيرا، الأول يتعلق ببعث مدرسة لتلقين جماليات الفن والإبداع، اختار لها "الريشة الأدبية" والثاني الحصول على شهادة الكفاءة في المحاماة بهدف التفرغ لهذه المهنة بعد تقاعده من الإذاعة. تحقّق له ما أراد، وهو ليس من عادته أو طباعه أن يقدم على شيء بعيد المنال. والحقيقة أنّ عمر بوشموخة هو اسم كبير يختزل لوحده عالما رحبا يتجاذبه الجدّ والمرح، ويتفاعل معه كل ذي حسّ مرهف مسكون بلذّة التعاطي مع القيم الجمالية في هذا الوجود، فكما هو ملهم بالكتابة، كان رجل تذوّق فني رفيع. فقد عاش عاشقا ومولعا بالأداء الموسيقي والغنائي الرفيع، وتعلّق بالطرب الشرقي وصانعي مجده من أمثال الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وسيدة الطرب العربي كوكب الشرق أم كلثوم، وهو الذي ذهب خصيصا للقاهرة لحضور جنازة هذه الأسطورة الغنائية التي يصعب تكرارها. وللجلسات مع عمر بوشموخة نكهة خاصة، كثيرة الملتقيات الفكرية والأدبية والإعلامية التي لا يتأخر عن حضورها وتزهو خاتمها به. فقليل هذه المواعيد التي لا تكون نهايتها فنية بصوت عمر وهو يؤدي عن ظهر قلب واحدة من روائع مطربة العرب الأولى، فهو مقلّد بارع. كثيرة وما أروعها الصفات والخصال الطيبة والعطاءات القيّمة التي رفعت من شأن فقيدنا، فلم ينل منه خبث المدينة وغواياتها، ولم ينسلخ عن عفوية بيئته الريفية المتأصلة، فإليها عاد ليوارى الثرى تاركا أبناء جيله وكل من عاصروه في ذهول من هذه الصدمة المفاجأة لرحيل هذا الاسم الأدبي والإعلامي الكبير، وهو في أعزّ العطاء. ما أقساه فراقك عمر! وداعا صديقي العزيز، وداعا أيّها الرجل الطيب الشهم، الأديب الفذّ، الكاتب الصحفي المتألّق، الفنان الموهوب الصادق المسكون بآيات الجمال والتذوق الراقي.