في الصورة أقف مندهشا أمام تلك الحركة المشلولة المتمثلة في بعض المحاولات لخلق نشاط ثقافي فكري وفني، ويضيق الأفق كلما حاولت استخدام الذاكرة لأقوم بمقارنة بينها وبين نفسي بما يحدث اليوم وما حدث بالأمس القريب، فترة السبعينيات وجزء من الثمانينات... كان الحيز جميلا ومرتبا تجري عليه أحداث جميلة حيث زرعت أرضه زهورا وورودا وعبقت أرضه بروائح عطرة.. جاءت إلى هنا، إلى الجزائر أسماء وامتلأت الساحة بفعاليات جادة وظهرت فيها أسماء كذلك... لكن المهم أن هذه الأسماء أعطت دفعا قويا للفعل الثقافي في الجزائر التي تعاني اليوم إحباطا في هذا المجال. أعود لأقف واستعيد الحكاية ومثلما قصدت الجزائر أسماء سياسية لامعة مثلت الحركات التحريرية، جاءت إليها أقلام ونشأت بها أقلام فساهمت بفعالية في بناء هرم الصرح الثقافي إلى جانب الأقلام الجزائرية صاحبة الصيت إن ذاك الذاهب بعيدا في الأفاق.. أضاءت نجوم الطريق... وتقاربت الكلمات.. وساد حوار الفضاءات المعدة لنشاطات فكان الحوار كلمة والحوار اللوحة والحوار الخشبة، وحوار منابر الجرائد التي أضافت الشيء الكثير إلى هذا الكم المنجز رغم ما يقال عن الوضع السياسي المنتقد حتى في ذلك الوقت؟ هكذا إحتوت الذاكرة على مشاهد وصور وقصص هي كلها شاهدة عن حركة جادة نسجت حلما كبيرا رغم انه تبخر في الأخير بعد أن ولد الشيء الكثير. العملية التثقيفية ليست عملية تجميلية فقط بل هي عملية متكاملة تخلقه أولا الأقلام الجادة خاصة إذا كان هناك تخطيط ومنهجية من طرف القائمين على ذلك ثم يأتي الإنشاء لجو الاحتكاك مع الغير ويتمثل في مساهمة الأقلام الأجنبية والعربية... ومرت سنوات وبقي الصدى، ظهر اسم عربي مهم في الكتابة السياسية في الجزائر، كان له شأن وترك بصمات هو الأستاذ سعد زهران حيث تكون على يده جيل من الصحافيين الجزائريين، هم الآن أسماء كبيرة وهنا تلوح الملاحظة وهي كفاءة الأستاذ في تلك المرحلة التي يساعده المحيط على العطاء وهذا ينطبق على العديد من الأساتذة المشارقة الذين انتدبوا التدريس وكانت مساهماتهم في الكتابة خاصة ذات نتائج مهمة. في نفس الميدان مرت أسماء أخرى إلى أوروبا بعد أن ظهرت بالجزائر مثال التونسيين صافي السعيد وفرج البرجاوي... وإذا ما استرسلنا في تصفح أوراق ماضية متناثرة نجد المجال الذي كان أوسع في الكتابة من طرف الأقلام العربية في الجزائر هو المجال الأدبي والنقدي خاصة وكان دورهم بارزا في التشكيل الثقافي الأدبي ومن هؤلاء الشاعر المغربي محمد علي الهواري الذي كان يشرف على القسم الثقافي بجريدة »الشعب« والذي كانت له معارك مع الكثير من الكتاب الشباب آنذاك، لكنه كان شخصية متمكنة في مجالها وهذا يظهر من خلال كتابتها النقدية ومن هنا أنتزع الاعتراف من الكثيرين من الأدباء والكتاب. إسم آخر كانت كلماته كاللؤلؤ، ناقد جيد، عرف بالأدباء الجزائرين الشباب وهذا عبر جريدة ''الشعب'' الجزائرية ثم مجلة ''الأقلام'' العراقية وبذلك يكون عبد الأمير الحبيب من الكتاب العرب الذين عاشوا في الجزائر وكانوا جسرا مهما في نقل بعض ملامح الأدب الجزائري الحديث إلى الأشقاء العرب. هي إشعاعات فكرية ونقدية أنشأتها هذه الأقلام، ولا نمر في الذكر دون أن نذكر بعض الكتاب الآخرين الذين نسجوا خيوطا ذهبية لا تصدأ وتتقطع فبقت أثارهم خالدة ومن هؤلاء عاطف يونس وابن الشاطئ وشوقي بغدادي وأحمد دوغان ود . فتح الباب.. هذه كوكبة عاشت في الجزائر وكانت شاهدة على وعي ثقافي وسياسي وجد الرعاية فكان الخلق والإبداع وهذا كله شكل هيبة للبلد ومنح مكانة لها بين ثقافات العالم وخاصة العربي منه... كانت حياة، كل شيء يرشح، بمقدار أصحاب الفكر المعدودين لكنهم يضيفون الجديد دائما، أسماء تتكون رغم قلتها، هناك إفراز للقرائح والعقول... اليوم لا شيء من ذلك، غاب أهل السياسة وغاب أهل الفكر ولم تعد هناك ملامح لجو صافى يفكر فيه ويبدع فيه، هي الصورة التي نقف عندها.