يطرح أمحمد حميدوش الخبير والمحلل الاقتصادي والمالي مسألة طبيعة نموذج النمو الجديد الذي ينبغي إرساؤه في ظل تداعيات انهيار أسعار المحروقات داعيا في هذا الحوار الحصري لجريدة "الشعب"، إلى اللجوء لاتخاذ إجراءات في المتناول لتعويض عجز الميزانية بما يحقق موارد مالية دون المساس بوتيرة الاستثمار ومختلف ركائز الاستقرار الاجتماعي. كما يؤكد على أهمية اعتماد أدوات اقتصادية لضبط معادلة سوق الشغل بإعادة توجيه مسارته وفقا للاحتياجات المعبّر عنها في قطاعات خارج المحروقات مشيرا إلى أن الوضع الراهن يستدعي التزام الحذر دون السقوط مبكرا في الشعور بأن الأزمة قائمة، وان كانت بدأت تلوح في الأفق المتوسط إذا لم تتخذ الترتيبات الملائمة وبذكاء. هذه الأخيرة يمكن تجاوزها في المدى المتوسط والطويل وفقا لإتباع نمط تسيير يقوم على إدماج الكفاءات وتحرير المبادرات وترشيد النفقات العمومية باللجوء إلى رد الاعتبار للتحصيل الضريبي ومعالجة الاقتصاد الموازي وتثمين العمل. وفيما يلي مضمون الحوار كاملا: "الشعب": في ضوء التقلبات التي تعرفها سوق النفط وانعكاساتها على الموارد المالية للجزائر في المدى المتوسط على الأقل، كيف تشخص الوضعية الراهنة وهل بالإمكان مواجهة تداعياتها وكيف؟ د.أمحمد حميدوش: بداية عندما يجري الحديث عن التقلبات التي تعرفها أسواق المحروقات لا يجب السقوط في تسويق خطاب تهويل وبث الريبة في الساحة الاقتصادية وبالتالي التشويش على مناخ الاستثمار. ومن المفيد النظر لتقلبات الأسعار البترولية من زاوية أثرها على التجارة الخارجية من حيث معادلة احتياطي الصرف بالعملة الصعبة. حول هذا الأمر المؤكد انه بالإضافة إلى رصيد الاحتياطي الموجود حاليا فإنه مع إمكانية تراجع سعر البرميل من النفط إلى 30 دولارا، فإن للجزائر موارد تضمن تغطية احتياجات 6 سنوات ولذلك فالبلاد ليست في قلب أزمة، إنما تواجه مؤشرات تتطلب اليقظة مبكرا. فبامتلاك 185 مليار دولار احتياطي من السيولة بالعملة الصعبة ووفقا للقاعدة المالية (كل دولار ينتج عشرة أمثاله) يمكن تجاوز أي خطر محتمل. ففي دولة الإمارات مثلا يتم بناء على الأقل 200 ناطحة سحاب بمعدل مليار دولار للواحدة لتحقق من خلالها موارد مالية هامة، أريد القول أن الظرف يفرض إدراج كفاءات بشرية في الأسواق المالية تكون مؤهلة لتوظيف الموارد المالية اقتصاديا كما في قطاع البناء، بوضع نظام توفير مالي يجلب الاستثمار الأجنبي في هذا القطاع وإنشاء سوق عقارية جذابة. يوجد ميدان آخر يمكن استغلاله هو سوق العملة بإمكانية توفير حوالي 3 ملايير دولار من خلال إحداث بورصة مالية وفي سنة واحدة يمكن كسب بنسبة 10 بالمائة تعادل 300 مليون دولار. بالتأكيد التقلبات التي أشرت إليها في السؤال تدفع إلى الوقوف عند ميزانية الدولة التي تبقى أكبر مشغل بأكثر من 2 مليون موظف، فهي تحتاج إلى سعر 40 دولارا للبرميل لتواصل ديناميكيتها وضمان سيرورة الدولة وبهذا المعدل لا تتعرض لأي خلل بما في ذلك تمويل الدعم والتحويلات الاجتماعية. غير أن الإشكال يبقى على مستوى ميزانية التجهيز التي تحتاج إلى سعر بين 50/60 مليار دولار سنويا وطيلة 5 سنوات. ولمواجهة الوضع يتم اللجوء إلى موارد صندوق ضبط الإيرادات الذي يتوفر على 50 مليار دولار فيتم سحب 10 مليار دولار منه كل سنة. ويتدعم هذا الإجراء باعتماد تقشف وحوكمة ومكافحة سلوكات التبذير في بعض النشاطات مثل الملتقيات والندوات والمهمات التي تستنزف بالحد من تلك الضرورية وإلغاء الروتينية منها، وكل هذا العمل يوفر ما لا يقل عن 5 مليار دولار من ميزانية التجهيز. يوجد عمل كبير ينبغي انجازه لمواجهة الاحتياجات على صعيد تحصيل عائدات الرسم على القيمة المضافة التي تقدر بين 5 إلى 10 مليار دولار ويلزم القانون بالتصريح بها شهريا مما يعني إمكانية الوصول إلى مصادرها بيسر عكس الضرائب الأخرى. كما أن تراجع قيمة الدولار مقابل الدينار في الآونة الأخيرة يوفر ما يعادل 7 مليار دولار للميزانية. ويمكن اللجوء أيضا لإطلاق برنامج خوصصة 20 بالمائة من رأسمال المؤسسات التي تعاني من النجاعة عن طريق البورصة وتحصل بذلك على ما يعادل 10 مليار دولار علما أن هناك قائمة لحوالي 40 مؤسسة مدرجة في هذا المسار منذ أن كان كريم جودي وزيرا للمالية. كما تحقق مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص من 3 إلى 10 مليار. كل هذا الجهد في عمق الجهاز الاقتصادي يقود إلى الضغط على عجز الميزانية فلا يتعدى 3 الى 7 ملايير دولار وحينها يمكن للدولة اللجوء إلى طرح سندات متوسطة وطويلة الأجل لبلوغ درجة ميزانية بصفر عجز. يبقى المشكل في نسبة النمو والدخل الوطني الخام كون ثلثه من مداخيل البترول وبالتالي تكون لأسعار المحروقات تأثيرات على النمو وبالتالي على مداخيل الأسر، أي بصورة أخرى تأثير على الإنتاج والشغل ليبقى السؤال مركزا على نموذج النمو الواجب إتباعه؟. في ظل هكذا وضعية، ما هي برأيك الخيارات الممكنة للرهان عليها والتي يمكن أن تستفيد من الطاقة لبناء اقتصاد متنوع يبعد أي صدمة مالية أو يقلل من تأثيراتها على النمو؟ الخيارات في هذا الظرف تتطلب "دولة ذكية"، ويقصد الذكاء بالمفهوم الانجليزي بمعنى توفير المعطيات ووضع المعلومة في المتناول حتى يكون لصاحب القرار الاقتصادي عدة توجهات فيختار الأفضل منها وبالتالي تفادي حتمية اختيار "أحسن أسوأ قرار". الدولة الذكية تعني أن الوقت حان لأن تفهم الدوائر الوزارية المختلفة واقع السوق وبالتالي فهم هوامش الربح، أي القدرة على تحديد نقاط القوة والضعف ليس بالمعنى الإداري الذي يحمل فجوة مع الواقع، وليس بإيجاد حلول تتضمن إجراءات لا يمكن تقدير نفعها وضررها. المهمة الأولى أن يدرك القائمون على دواليب الاقتصاد تحديد القطاعات الإستراتيجية التي تقتضي حماية وتلك التي تتطلب الشراكة وتحويل التكنولوجيا من خلال آلية "المداعبة وتقنيات الاستحواذ" من خلال الدخول في استثمارات بالخارج مع شركات ذات تكنولوجيات عالية وتنتجها لامتلاك الخبرة. وفي مجال النظام الضريبي ينبغي التوجه إلى إحداث تمييز ايجابي بين القطاعات المنتجة والقطاعات التجارية ذات الربحية المرتفعة وتلك التي تعيش على المضاربة والنشاطات الموازية وان يكون هامش الربح أقل من 9 بالمائة ليدفع بالرأسمال الوطني للاستثمار في قطاعات منتجة مع التزام صرامة بخصوص التعامل مع القيمة المضافة التي يصرح بها المتعامل الاقتصادي في ال 20 من كل شهر علما أن عدم التصريح بها أو الغش فيها يترتب عنه تبعات جزائية فتكون من اختصاص النيابة العامة ولا تعد حينها مسألة إدارية. وهذا معمول به في أمريكا كون التلاعب بالقيمة المضافة جريمة اقتصادية. ومن شأن هذا أن يرد الاعتبار لوظيفة مراقب الحسابات ومالية المؤسسات الاقتصادية كافة بالتزام الدقة والجدية والشفافية تجاه الدولة. كما من الخيارات اللجوء إلى تنازل الدولة عن بعض النشاطات الخفيفة كما في المناجم بالنسبة للتنقيب عن الذهب بتنمية إشراك الخواص في البحث وتسويق الإنتاج للمؤسسة العمومية المعنية وبالتالي تلجيم استيراد الذهب وتنمية الاحتياطي ويوصف هذا بالتنازل الخفيف ويندرج في صلب نموذج النمو الجديد. هل حان الوقت لإعادة ضبط خارطة طريق واقعية وذات جدوى لأداوت التشغيل، بحيث ينبغي التركيز على عرض الدعم للنشاطات ذات الجدوى والمنتجة للقيمة المضافة؟ بالنسبة لهذا الأمر ينبغي ضبط خارطة تشغيل واضحة ترتكز على عوامل هيكلية مثل تركيبة السكان وشيخوخة اليد العاملة وعروض العمل ومعيار الإنتاجية. ويعني هذا التحكم في منحى (بيفريدج beveridj) الذي يضبط العلاقة بين نسبة البطالة ومناصب العمل الشاغرة علما أن هناك قطاعات تعاني من قلة اليد العاملة وتتطلب هذه الحالة مرافقتها بالتكوين والتأهيل المهني مع قياسها بمؤشر عدم فاعلية الكفاءات (skill mismatch index) وهو مؤشر يقارن السكان الفاعلين ونسبة البطالة. ويوجد أيضا منحى "فيليبس" الذي يختص بمعالجة البطالة والتضخم بمعنى قبول نسبة تضخم معينة للحفاظ على تراجع البطالة. من جهة أخرى يوجد قانون (اوكون okun) المتعلق بنسبة النمو المقابلة للحفاظ على الشغل وتخفيض البطالة (يوجد نقاش حاليا بفرنسا حول المسألة واعتبار نسبة نمو 1,2 بالمائة مؤشر لعدم وجود طلب على الشغل و أقل من 1 بالمائة تعني تلبية الطلب وأكثر من 1 بالمائة نمو تؤدي إلى إنشاء فرص عمل). من هذا كله السؤال ما هو مستوى النمو الذي يحافظ على مستوى التشغيل أو النسبة التي تزيد منه ويؤدي هذا إلى تحديد القطاعات المنشئة أكثر لمناصب العمل. وخلاصة القول إذا أردنا نموذج نمو جديد يهتم بالتشغيل يجب اعتماد العمل بقانون (اوكون) المشار إليه. والسؤال الجوهري ما هي الإنتاجية التي نحققها ونخسرها سنويا في كل قطاع اقتصادي في ظل توجه جديد للتشغيل في آفاق سنة 2030 والتحضير لذلك يبدأ اليوم.