بعد طلب الحكومة السورية دعما عسكريا روسيًا، وبعد موافقة مجلس النواب الروسي (الدوما) على تفويض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استخدام القوات الروسية خارج البلاد لمكافحة الإرهاب، الذي بات قريباً من الحدود الروسية، ما عزز حضور موسكو عالمياً، وأعاد ميزان القوى العالمي من جديد من أحادي القطبية إلى ثنائي القطبية. كشّرت كل من روسياوالولاياتالمتحدة عن أنيابهما دبلوماسياً ما يعيدنا إلى الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وكانت موسكو، قبل الدخول الروسي العسكري إلى سوريا، قد حاولت ولا تزال تحاول تفعيل المعادلة السياسية والمصالحة الوطنية في سوريا من أجل بدء تشكيل حكومة سورية من جميع الأطراف. ونظراً لقيام واشنطن باتباع سياسة احتواء تلك التنظيمات الإرهابية المسلحة في سوريا مع استعمالها لتسميتها بالمعارضة المعتدلة وتقديمها المساعدة والدعم المادي والعسكري واللوجيستي من قبل دول التحالف أو ما يسمى بأصدقاء سوريا، وهذا ما جعل الخطر يحوم ليس على سوريا وحدها بل على جيرانها والمنطقة ككل بل والعالم أيضا ما جعل التدخل العسكري الروسي أمر حتمي للقضاء على تلك التنظيمات، وما حدث في عدة مدن أوروبية مؤخراً خير دليل على ذلك. وبالرغم مما حدث فقد أبقت موسكو الباب مفتوحاً للتعاون السياسي والدبلوماسي مع واشنطن؛ لكن، وخلال عام مضى كانت الولاياتالمتحدة منقسمة على نفسها فيما يتعلّق بالشأن السوري أهم ملامح تغيرالسلوك الأمريكي شكّل الدخول الروسي إلى سوريا منعطفاً كبيراً لم يكن في حسابات الإدارة الأمريكية، إذ أن القوات الروسية في سوريا تمكنت من ترك بصماتها بشكل فاعل وواضح خلال أيام قليلة من الضربات الجوية ضد التنظيمات الإرهابية على عكس ما قامت به قوات التحالف الستيني، والتي شنّت غاراتها على مواقع لا توجد فيها تنظيمات إرهابية. ولعلّ ما قامت به مؤخراً قوات التحالف بقصف مواقع تابعة للجيش السوري في دير الزور، ومقتل عشرات من الجنود السوريين، كان مؤشراً على عدم جدية التحالف الدولي بقيادة أمريكا محاربة داعش الإرهابي بل يجزم المتتبّع للشأن السوري أن التحالف يدعم الإرهاب ولا يحاربه وهذا ما أكدته هيلاري كلينتون مرشحة الرئاسة الأمريكية في كتاب لها مفاده أن تنظيم داعش صناعة أمريكية. ووفق وسائل الإعلام الأمريكي نفسها، فإن فشل الخطط العسكرية الأمريكية في سوريا وانتشار ظاهرة الإرهاب عالمياً ساهما في زيادة حدة الخلاف بين الساسة الأمريكيين والقيادات الأمنية والعسكرية نظراً لتضارب تصريحات كل منها حول ماهية الوضع في سوريا، وجدوى الحوار الدبلوماسي مع روسيا لحل كثير من القضايا الشائكة. بعد عام على التدخل الروسي، كانت النتائج كبيرة بكل المقاييس، ولا يمكن تجاهلها سياسياً أو استراتيجيا أو ميدانيا؛ ما أسّس لمعادلة جديدة للتعاون بين الدول وهو ما لم يرضِ الإدارة الأمريكية التي لا تزال تنظر إلى روسيا كقوة إقليمية لا دولية. والخلاف الروسي - الأمريكي هنا ليس على الطريقة التي تتعاطى بها موسكو مع دمشق، بل برسائل موسكو إلى كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من مناطق نفوذ موسكو. وهذا ما أثار جدالاً حادا بين البنتاغون ووكالة المخابرات الأمريكية «سي أي أي» حول ما حقّقه التدخل الروسي في سوريا والذي أثر بشكل كبير على مواقف عدة دول منها تركيا وهي عضو في حلف الناتو. وعللت ذلك بما قام به الرئيس التركي من زيارة موسكو والتباحث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ ما شكّل ضربة للناتو وللقيادة الأمريكية دفعت نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى زيارة أنقرة. تلاعب الولاياتالمتحدة بإعلانها السياسي أنها مع الحل السلمي في سوريا وأنها مع الهدنة، وتناقض ذلك على أرض الواقع طوال الفترة الماضية مع ما تقوم به قواتها في السماء السورية، وعلى دعمها المعارضة التي ترفض واشنطن تحديد أي من فصائلها إرهابي من عدمه. كل ذلك كان طوال عام قضية كسب للوقت لا غير للوصول إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومعرفة الرئيس المقبل؛ لأنه ستتحدّد بعدها طبيعة علاقة الولاياتالمتحدة مع عدد من الدول ومنها إيرانوروسيا. فوفق ما نشرته «نيويورك تايمز»، فإن «غياب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن الساحة الدولية ترك المجال للرئيس الروسي للتحرك بمرونة أكثر وكسب الكثير عبر ثنائية التدخل العسكري والدبلوماسية شهد العالم تصعيداً ملحوظاً في الصراعات الدولية. وكان السبب الرئيس لهذا التصعيد انهيار استراتيجية إعادة تنظيم العلاقات الدولية التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما منذ عام 2009 لبناء شراكة استراتيجية مع روسيا لحل القضايا الشائكة عالمياً. ولكن يبدو أن تدخل عدد مما يطلق عليه «وكالات العلاقات العامة» في الولاياتالمتحدة وخارجها، والمملوكة لعدد من كبار الشخصيات المتنفذة هناك هي التي تتحكم في تلك القرارات، وفق صحيفة «واشنطن بوست». وقد قالت «سي إن إن» إن موقف الرئيس الأمريكي المقبل، والتي رجّحت أن تكون هيلاري كلينتون، يعني قيام تدخل عسكري كبير في سوريا ما يفشل كل الجهود الدبلوماسية الحالية؛ لأن أي حراك دبلوماسي لن يفضِ إلى شيء بل هو من قبيل التسويف للحل. أما إذا فاز دونالد ترامب، فلن يرسل قوات إلى سوريا، وسيكتفي بما تقوم به القوات الروسية هناك. لذلك، وبما أن الحكومة الأمريكية الحالية تمثل الحزب «الديمقراطي» الذي وصل إلى الحكم في العام 2009، فإن الإدارة الحالية والدفاع الأمريكية تحاول اللعب بانتظار تغيير شامل للاستراتيجية عقب فوز كلينتون. وهو ما يتمناه الكثيرون من حلفاء الولاياتالمتحدة، وحتى بعض القيادات الأمريكية العسكرية والسلك الدبلوماسي. وهذا يعني مراجعة شاملة للاستراتيجية الأمريكية في سوريا مع تصعيد عسكري كما حصل في العراق. ولعلّ تقرير «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، الذي رأى في «إصرار كيري على إبقاء معظم الاتفاقات مع الروس سرية وعدم نشرها ومنها نصّ الهدنة ووقف إطلاق النار وسيلةً لتجنب منح التنظيمات الإرهابية إشعاراً مسبقاً بشن أي عمليات محتملة ضدها لعله خير دليل على تبدل السلوك الأمريكي منذ بداية عام 2016 حتى اليوم. لكن البيت الأبيض وكيري في الوقت نفسه هما قضاة امتثال، وهو تكتيك مماثل استُخدم وحقق نجاحاً في الفترة التي سبقت التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران». وأضاف المعهد أن ما كان كيري يرفعه من شعارات عن الحل البديل في سوريا ما هو إلا تكتيك؛ لأن وزير الخارجية «قد عرف عنه بأنه من دعاة الخطط البديلة فيما يتعلق بسوريا والمراوغة فيما بتعلق بالالتزام في محاولة لحفظ ماء الوجه». فالولاياتالمتحدة انتقلت فجأة من السباقات الدبلوماسية إلى سباقات التهديد والإبتزاز كما وصفتها الخارجية الروسية، حيث خرجت الخارجية الأمريكية يوم الأربعاء 28 سبتمبر، لتعلن أن وقف التعاون بين موسكووواشنطن بخصوص سوريا قد يؤثر سلبا على روسيا، وأضاف الناطق باسمها (جون كيري) أن استمرار الحرب الأهلية في سوريا سوف يدفع المتطرفين لاستثمار فراغ السلطة في سوريا ويوسعون نطاق هجماتهم التي ستستهدف مصالح روسيا دون شك بل ومن الممكن أن تستهدف مدنا روسية وكأنه يحرض ويدعو إلى استهداف المدن الروسية، وهو التصريح الذي اعتيرته موسكو يصب في مصلحة الإرهاب. تحصين الدولة ودحر الإرهاب. إن العملية الروسية في سوريا جاءت لتحدث تحولا مفصليا في خريطة الأحداث في الشرق الأوسط، هذا التدخل العسكري الروسي الأول من نوعه بشكل رسمي ومعلن اكتسب شرعية مطلقة عبر دخوله من البوابة الكبيرة للدولة السورية . العام الأول من التدخل الروسي ساهم بشكل واضح بإعادة كتابة تاريخ المنطقة بعد إمساكه بالموقع السوري وتحصين الدولة السورية من السقوط في سيناريو يراد منه أن يكون شبيها بالسيناريو الليبي، فعشرون ألف طلعة جوية نفذتها القوات الروسية خلال عام غيرت الكثير في مصير هذا البلد ومستقبله. فقد أفلح التدخل الروسي في نقل القوات السورية من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم على معظم الجبهات.