يعيش الساحل الإفريقي ظواهر خطيرة تمثلت في تفشي الجريمة المنظمة والارهاب وأزمات داخلية ناتجة عن مشاكل إثنية، شكلت ولا تزال تشكل معضلة خطيرة وتطرح في نفس الوقت إشكالية الأمن في هذه المنطقة التي لم تهدأ رغم بعض المحاولات التي أثمرت اتفاقيات سلام لم تنعكس مباشرة على واقع المنطقة. حول هذه الإشكالية نشطت مجموعة من الأساتذة، ندوة فكرية أمس، بمقر جريدة ''الشعب'' استهلها الأستاذ عبد الحفيظ ذيب من معهد العلوم السياسية بمداخلة بثلاثة مستويات، وهي أن مشكلة الجزائر مع الدول الواقعة في الساحل إقتصادية واجتماعية وأن الطابع السياسي والأمني ميّز هذه المنطقة، فضلا عن الجانب الآخر ألا وهو البيئي. واعتبر المتدخل أن دول الساحل الإفريقي في أغلبها متخلفة وتميزها ظاهرة الهجرة نحو الجزائر من جهة، والحروب الإثنية من جهة أخرى، مما أدى إلى بروز سوق للأسلحة الخفيفة وتطور نشاط المخدرات والارهاب، ويبقى جوهر المشاكل بالنسبة لعبد الحفيظ ذيب هي الجريمة المنظمة التي تستحوذ عليها المخدرات بنسبة 90٪. وأوضح المحاضر أنه نظرا لوجود كل من مالي والنيجر تحت النفوذ الفرنسي، فإنه عند حدوث أي مشكل بين الجزائروفرنسا، تقوم هذه الأخيرة بتحريك ''توارڤ'' هاتين الدولتين لتعكير الأجواء وإثارة المزيد من المشاكل. ويرى الأستاذ ذيب أنه من الأفضل حل المشاكل المطروحة بين دول منطقة الساحل الإفريقي بطريقة سلمية، خاصة ما تعلق بتحديد معالم الحدود التي تظل تثير المزيد من القلائل فيما بينها. وفي نفس السياق، اقترح على الدولة الجزائرية التي رصدت مليار دولار لتأمين حدودها عن طريق شراء أجهزة للرقابة، تخصيص مبلغا آخر من المال وبنفس القيمة لتنمية الحدود للحد من الهجرة وانتشار الأوبئة، كما اقترح المزيد من التنسيق بين الدول المعنية خاصة بين الجزائر وليبيا، معتبرا أن دعوة هذه الأخيرة لخلق دولة ل''التوارڤ'' ناجم بالأساس لعدم وجود توافق وانسجام بينهما. أما المتدخل الثاني في ندوة ''الشعب''، وهو الأستاذ حسين بوقارة، فقد تعمق في محاضرته حول المسألة ''التوارقية'' التي وصفها بالمعقدة من حيث الإطار المحدد لها وكذا من حيث الأطراف التي تساهم من قريب أو من بعيد في تداعياتها الراهنة، مشيرا إلى أن الأقليات ''الترڤية'' في النيجر والمالي تعد من بين العوامل التي تحدد استقرار الدولتين والتي تعتبر قضية مهمة بالنسبة للجزائر، خاصة من الزاوية الأخلاقية. وحدد المحاضر ثلاث نظريات لتفسير الظاهرة الترڤية، أولها نظرية الدول الفاشلة والتي تفسر فشل استراتيجية إدماج وإحداث ديناميكية إقتصادية في الساحل والبحث عن الأطر التي يمكن أن تعبر عن خصوصيات هذه الأقليات، وأخيرا تفسير الظاهرة بالواقعية الإثنية. وأشار المتدخل إلى أن الطروحات العديدة الجزائرية والفرنسية والمصرية حول الأقلية الترڤية كانت تصبّ جلها في ما وصفها بالاعتبارات الخاصة وتوجد النسبة الكبيرة من التوارڤ في النيجر ب 800 ألف نسمة تليها مالي ب 500 ألف وليبيا ب 70 ألف وبوركينافاسو ب 35 ألف وفي المرتبة الأخيرة الجزائر دون أن يقدم أرقاما خاصة بها. ورغم توزع التوارڤ على هذه الدول، إلا أنه لا يوجد أي اتصال فيما بينهم، حسب المتدخل الذي أوضح أنهم يتوزعون على خمسة كنفدراليات، في كل من التشاد ثم الجزائر وليبيا وتوارڤ النيجر والآخرون في مالي والبقية عبارة عن بعض القبائل المتواجدين في كل من النيجر ومالي. وحسب الأستاذ حسين، فإن جل الاتفاقيات المبرمجة تنص على ضرورة إدماج التوارڤ ووضع السلاح، لكن شيء من هذا لم يتحقق والمشكل من وجهة نظره يبقى قائما، ولن ينتهي ما دامت آليات تحسين ظروف معيشتهم تبقى غائبة. ولم يخف المحاضر مجالات توظيف القضية الترڤية من قبل الأطراف الخارجية، معتبرا أن الجزائر الأكثر تأثرا وتأثيرا في هذا المشكل من خلال مساهمتها في إيجاد أطر التفاوض لفض النزاعات وكذا بفعل استعدادها للتضحية على حد تعبيره، من خلال استقبال أعداد معتبرة منهم في حالة حدوث أزمات على أرض هذه الدول، مؤكدا على أن المقاربة الأخلاقية والتضامنية لا تكفي وداعيا إلى ضرورة البحث عن أطر أخرى يجب وضعها في المنطقة لتقليص الآثار السلبية على الجزائر. وبالمقارنة مع الدول الأخرى، فإن المتدخل يعتقد أن الورقة الثرقية وظفت أسوأ توظيف في الجزائر، عكس دول أخرى، فليبيا ورغم ضعف إمكانياتها حاولت في الكثير من الأحيان توظيف القضية في كل من مالي والنيجر إلى درجة فرض اللغة العربية كلغة رسمية في مالي منافسة فرنسا من خلال محاولة إضعاف دورها في المنطقة، والأكثر من هذا فقد دعا الرئيس القذافي إلى إنشاء دولة للتوارڤ. أما المغرب ورغم عدم وجود أقلية بها، إلا أنها حاولت استغلالها في قضية الصحراء الغربية من خلال التهديد بدفع التوارڤ للمطالبة بالاستقلال، كما أن إسرائيل سعت في سنوات التسعينيات إلى نفس الشيء من خلال تحريض إحدى القبائل وهي ''إزاك'' في شمال النيجر ذات الأصول اليهودية التي دخلت الإسلام. ومن جهتها، حاولت فرنسا إستغلال المعارضة الترڤية الذي كان زعيمها مقيما في فرنسا، لكن إبرام اتفاقيات الجزائر حال دون ذلك بعد إنضمامه إليها ثم قتل في حادث مأساوي اتهمت فيها المخابرات الفرنسية. أما أمريكا فقد سعت إلى احتواء القضية الترڤية تحت مبررات عديدة أهمها خشيتها من تحول المنطقة إلى مركز للنشاط الإرهابي، كما أنها ترى فيها أهم المناطق التي تمارس فيها التجارة غير الشرعية للأسلحة بعد كل من جمهورية آسيا الوسطى والقرن الإفريقي، فأمريكا تريد إقامة قاعدة ''الأفر نكوم'' في هذه المنطقة، وبدل الاعتماد على المقاربة السياسية لحل المشاكل المطروحة أرسلت مساعدات معتبرة لدولة مالي ولكن في شكل أسلحة. ويستخلص المتدخل أن قضية التوارڤ نزاع ليس نائما وإنما مؤجل وعلى الجزائر إعادة النظر في مقاربتها لمشكلة التوارڤ وإيجاد حلّ وسط للتقليل من الإنعكاسات السلبية عليها.