هل حان الوقت للجالية الجزائرية في فرنسا أن تقفزَ إلى عهدٍ جديدٍ في مسارِ تَطَوُّرِهَا في هذا البلد؟ كل المؤشرات توحي بذلك ولو أن النقائص ونقاط الضعف التي تعيق من داخلها مثل هذا التطور لاتزال متعددة... مِثلها مثل أثقال التاريخ... في العهد العثماني كان الجزائريون في فرنسا ينحسرون في طائفتين محدودتين جدا عدديا، وهما طائفة التجار الكبار والديبلوماسيين من جهة، وطائفة أخرى بائسة وتعيسة، من جهة أخرى، تتمثل في الأسرى المسلمين بهذا البلد. فأما الأولى فقد كانت مُتقاسَمة بين رجالِ أعمالٍ يهودٍ، سواءَ كانوا جزائريِّين أصليِّين أو حديثِي الهجرة والإقامة بالبلاد، ورجالِ أعمالٍ مسلمين على غرارِ حَمْدَان بن عُثْمَان خُوجَة. وكثيرا ما كانت هاتان الطبقتان تجمع بين المهام الدبلوماسية والتجارة الكبيرة، ولا تُقيم في فرنسا إلا ريثما تتمُّ صفقاتَها وتُكمل مهامَّها الدبلوماسية. وأما طبقة الأسرى المُسْتَعْبَدِين فقد كانوا جَدَّافين في السُّفنِ وإطارات لامعة في الأسطول البحري الفرنسي، يعيشون حياة صعبةً على هامشِ المجتمع الفرنسي بسبب سوء معاملتهم. بعضُهم كُتبتْ له العودة إلى وطنه وبعضُهم الآخر قضى نحبَه غريبًا في »بلاد الكُفَّار« وانقطع بهم كل اتصال... ولم يكن المجتمع الفرنسي يرى فيهم، عادةً، سوى "ثغْرِيِّين" أشرار من أحفاد هؤلاء المسلمين الفارين من الأندلس مُستعدِّين في أيّة لحظة للتآمر والانقضاض عليهم وعلى دينهم، أو طابورٍ خامسٍ للإمبراطورية العثمانية في عقر دارهم. وهي الصورة التي لاتزال بعض أصدائها عالقة في اللاوعي الفرنسي والأوربي الجنوبي بشكل عام حتى اليوم... طيلة قرون العهد العثماني وبدايات الاحتلال الفرنسي للجزائر لم تتغير كثيرا بنية الوجود الجزائري في فرنسا، وكان »مهاجرو« ذلك العهد يتوزعون بشكل خاص على مدن ساحلية في الجنوب الفرنسي مثل »مَرْسِيلْيَا« و»تُولُونْ«... باريس لم تكن قد انفتحت لهم بعد.. الاحتلال سوف يُحدِث ثورةً ديمغرافية في عقر داره وسوف يتسبب، عن قصد أحيانا وعن غير قصد أحيانا أخرى، في خلق ما أصبح يُعرف فيما بعد »الجالية الجزائرية في فرنسا« التي لم تتمكن مخلفاته البشرية الفرنسية من هضمها جيدا حتى الآن. إذ بمجرد ما ظهرت الحاجة إلى المدد العسكري خلال الحرب الألمانية الفرنسية في سبعينيات القرن 19 م، لم تتردد سلطات باريس في تجنيد الجزائريين إجباريا ولو أن عددهم كان محدودا في تلك التجربة الأولى، وكانوا سرعان ما يَعُودُون إلى أرض الوطن بانتهاء مهامهم إذا كُتب لهم البقاء أحياء. لكن هذه التجربة فتحت جبهة أخرى على طريق الهجرة وعَبَّدَتْ الطريقَ أمام عددٍ من العائلات الميسورة لتكتشف المزايا الممكن الاستفادة منها في فرنسا، حيث أرسلتْ بعضُها أبناءَها للدراسة في الجامعات والمعاهد الباريسية مثلما هو شأن بن علي فَخَّار التلمساني الذي تَخَرَّجَ طبيبا في تلك العقود الأخيرة من القرن 19 م. ثم شيئا فشيئا بدأ آخرون يفكرون في الهجرة المؤقتة بحثا عن العمل ليفتتحوا مرحلةَ الهجرة العُمَّالية المُتكوِّنة من الطبقة الفقيرة البروليتارية الأمية أو شبه الأمية. وقد كان نصيب أهل جبال جرجرة وما جاورها الأكبر في هذه الهجرات بسبب الخراب والدمار والإفقار الذي حلّ بهم في أعقاب ثورة المقراني التي قَمَعَهَا الاستعمارُ قمعًا وحشيًا. كما كان من بين هؤلاء الجزائريين الرُّواد في بلاد نهر السِّينْ وبُرْجِ إيْفَلْ عددٌ من الثوار الجزائريين الذين كانوا يقضون بها عقوبات السجن والأشغال الشاقة، نذكر من بينهم بوالطَّمِّينْ وبُوعُكَّازْ إثر إخضاع منطقة جيجل في سبعينيات القرن 19م؛ الأول من جِيجَلْ والثاني من فَرْجِيوَة وهما ينحدران من عائلتين انْتَمَتَا إلى حاشيةِ الباي أحمد آخر بايات قسنطينة قبل سقوط المدينة في 1838م. إلى هؤلاء يُمكن أن نضيفَ بضعةَ أفراد من آل المقراني والشيخ الحداد الذين مَرُّوا من مرسيليا إمَّا عُبورًا إلى منفاهِم بكاليدونيا الجديدة أو لِيُغْتَالُوا بالسُّمِّ في فنادقِ المدينة... نتيجةً للسياسة الاحتلالية المُدَمِّرَة، ما إن انتهى القرن 19 م حتى بدأت تتشكل معالم جالية جزائرية مهاجرة في فرنسا بشكل دائمٍ أو طويلِ المدى على الأقل. حيث نجدهم عُمَّالاً في المِهَنِ التي لا تستقطب الفرنسيين لِصعوبتِها وخطورتِها وأجورِها الضعيفة جدا... فالسِّجلات والوثائق تؤكد وجود المئات من الجزائريين في مناجم ومحاجر ضواحي مرسيليا كما في مصانع شمال فرنسا منذ العام 1950 م. وفي 1960 م سوف تُستخدم اليد العاملة الجزائرية، وأغلبها من منطقة جرجرة وبجاية، لاستخلاف الإيطاليين، المُضْرِبِين عن العمل، في مصانع الزيت ومصانع التكرير بمرسيليا، ثم سوف يلتحق بهم عددٌ من أبناء العمومة، قُدِّرَ بالمئات، للاشتغال في نفس القطاعات، كما في مصانع الصابون، وحتى كحمَّالين في مرسى مرسيليا. وقد عُرفَ زْوَاوَةُ جَرْجْرَة في مدينة الجزائر منذ العهد العثماني بِتَخَصُّصِهِم في إنتاج وتسويق زيت الزيتون وكذلك الصابون الذي كانوا يبيعونه في »فُنْدُقْ القْبَايَلْ« قُرْبَ »بابْ عَزُّونْ« وعند مدخل الباب وسور القصبة المحاذي لِضَريحِ سيدي منصور. كانت مرسيليا أول محطة للقادمين الجدد من الجزائر في ذلك العهد، ومنها سَيَتَّجِهُ المئاتُ منهم نحْو المناجم والهياكل الصناعية الباريسية وكذلك إلى الشمال الفرنسي. وتُفيد الإحصائيات الرسمية الفرنسية »بوجود حركة هجرة فعلية« من الجزائر إلى فرنسا في السنوات الأخيرة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث سجلت التقارير وجود 4000 إلى 5000 جزائري بفرنسا في سنة 1921م. في هذه الفترة، بدا الجزائريون المغتربون يتجهون إلى قطاعات أخرى كالبناء والأشغال العمومية في الضواحي الباريسية، وإلى الصناعات الكيمياوية، وصناعة تكرير السكر، وقطاع النقل الحضري، والسكك الحديدية... إلخ. ثم عندما ألغى الحاكم العام بالجزائر العمل برخصة السفر بالنسبة للجزائريين في 1931م، تسارعت وتيرة الهجرة، فارتفع عدد الجالية الجزائريةبفرنسا في 1941م إلى حوالي 31000 مغترب تمركزوا في غالبيتهم القصوى في المدن الكبرى حيث تتوفر فرص العمل وحيث يتمتعون بنسيج تضامني جزائري يتكون من الرواد. لذلك، أمام اللامبالاة التي عوملوا بها من طرف السلطات الفرنسية التي لم تكن ترى فيهم أكثر من قوة عمل لا تختلف عن آلات وماكينات المصانع، سوف يتبلور في هذه الفترة النموذج التنظيمي الاجتماعي التلقائي للمهاجرين الجزائريين في فرنسا بشكل واضح. نموذجٌ اعتمد على التَّجَمُّعِ على أساسٍ جِهَوِي، قَبَلِي، دَشْرَوِي وعائلي في الهياكل التي يُطلَقُ عليها تسمية »مَطْعَم حَانَة فنْدق« )Bar - Hôtel - Restaurant(؛ أي الفضاء السكني، التضامني، الاجتماعي، الثقافي والترفيهي، لكل تلك الأجيال الأولى من المهاجرين. الفضاءات التي تمخضت عن الشيخ الحَسْنَاوِي ودَحْمَانْ الحَرَّاشِي ومحمد الكمال ورشيد القسنطيني وغيرهم في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي... ولاتزال مثل هذه الهياكل تؤدي دورَها في بعض الأوساط المغتربة في فرنسا بفعالية إلى اليوم. وعندما عجزتْ عن استيعابِ الزحف المتواصل للجزائريين المهاجرين إلى فرنسا بحثًا عن لقمة العيش التي حَرَمَهُم منها الاحتلالُ في عُقرِ دارِهِم، سوف تَحْتَضِنُهُم الأحياءُ القَصْدِيرِيَّة التي لاتزال الأشرطةُ التصويريةُ الفرنسية تشهدُ إلى اليوم على قساوةِ ولا إنسانية العيشِ فيها... ثم جاءت الحرب العالمية الأولى التي التهمتْ عدداً رهيباً من الجزائريين الذين جُندوا وهُجِّروا من أوطانهم إجباريًا بسبب إرسالِهم إلى الجبهات دون تدريبٍ كافٍ. وقد قَدَّرَتْ المصادرُ الجزائريةُ عددَهم ب:125000 ضحية. في نفس الوقت، كان عددٌ آخر يُشَجَّعُ على الهجرة لتعويض الفرنسيين الذين ذهبوا إلى جبهات القتال في المصانع والورشات. المصادرُ الفرنسيةُ تُشيرُ، حسب جَاكْ سِيمُونْ، إلى 78655 عامل جزائري جاءوا للمساهمة في تشغيل الآلة الاقتصادية الفرنسية، و 175000 لخوضِ حربِ الفرنسيين على جبهات القتال أغلبهم لن يعودوا أبدا إلى ذويهم... ولم تُخَلِّفْ الحربُ ثم العودةُ إلى الوطن في 1919 م من الجزائريين في فرنسا أكثرَ من »بضعة آلاف« من العمال كانوا متمركزين في باريس وضواحيها. على كُلٍّ، لا يجب أن ننسى بأن هذه الظروف ساعدتْ على تَبَلْوُرِ الحِسِّ الوطني الذي شَحَذَهُ الشعورُ بالظلم والإهانة، لذلك لم يكن تَبَلْوُرُ إرهاصاتِ الحركة الوطنية في هذه الأجواء مُجرَّد صُدفة، ولا ظهور روادها هنا في المهجر على غرار مصالي الحاج والأمير خالد وغيرهما حادثا عارضا... الخَلَف... لكن هذه المرحلة من عُمْرِ الهجرة الجزائرية إلى فرنسا هي أيضا التي سَتُرَسِّخُ الوجودَ الجزائري الجماهيري لأول مرة في تاريخ هذا البلد الذي، كما كان يُقال أحيانا، »لا يُحبُّنا بِقدر ما يُحبُّ عضلاتَنا«. وفي هذه المرحلة كذلك بَدأتْ تنتشرُ ظاهرةُ الزواجِ المختلطِ بين الجزائريين والفرنسيات لتضع أُسس النواة الأولى »للحبِّ« المفقود بين الجزائروفرنسا الذي لا يريد أن يأتيَ خارج مستويات مؤسسة الزواج وبعض التنظيمات الإيديولوجية.... فترةُ ما بيْن الحربين العالميتين، فَرَضَتْ على فرنسا استقدامَ اليد العاملة من المستعمرات، بعد الخسائر البشرية الكبيرة التي دفعتها أثناء الحرب، لتنشيط دواليب اقتصادها. فكانت فترةَ نموٍّ مُتسَارِعٍ للهجرة الجزائرية إلى فرنسا خصوصا قبل الأزمة الاقتصادية العالمية في 9291 م. تجربةُ الحرب العالمية الأولى ستتكرر في الحرب العالمية الثانية، حيث ستشهد هذه الأخيرة نفس السيناريو التَّعيس للجزائريين الذين أُخِذُوا بالقوة إلى جبهات الحرب في تونس، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا،... بالإضافة إلى اليد العاملة بأثمان زهيدة لا تفي بالحدِّ الأدنى الإنساني للحياة. وسيتواصل نزوحُ اليد العاملة الجزائرية إلى فرنسا بشكل واسع بعد 1945 خصوصا بعد الضياع الفظيع الذي كانت تتعرض له تحت وطأة الاحتلال. هذه الحركة استمرت بين مد وجزر إلى غاية استقلال الجزائر في 1962 م. ولا شك أن العنف الذي رافق الثورة التحريرية لم يكن من شأنه أن يفتح فرنسا بالأحضان للجزائريين رغم الحاجة الاقتصادية إليهم. كما أن الجزائريين لم يكن ممكنا لهم في ظل ذلك التوتر أن يروا في فرنسا أكثر من دولة استعمارية ظالمة وعنصرية رغم حاجتهم للاشتغال على أرضها. وسوف تكون لهذه الأوضاع النفسية آثار لم يتم تجاوزها بعد رغم مرور 54 سنة على انتهاء النزاع المسلح بين البلدين. الحاضر إذا كانت السنواتُ الأولى للاستقلال سنوات التحاق شريحة جديدة من اليد العاملة الجزائرية إلى الضفة الأخرى للبحر المتوسط، لا تختلف كثيرا عن سابقاتها من حيث مستواها التعليمي شبه المعدوم وكفاءتها المهنية المحدودة جدا، فإن عشريات الثمانينيات والتسعينيات من القرن ال02م ستشهد انتقالاً للأدمغة التي تَكَوَّنَتْ في الجزائر في ظل الاستقلال بالإضافة إلى الطلبة الذين كانوا يتدفقون على الجامعات الفرنسية والذين سَيُغَيِّرُون ليس فقط بُنْيَة الجالية الجزائرية في فرنسا بل حتى النظرة السائدة إليها والتي طالما طغى عليها الاحتقار. وهي التي ستشكل جيش الأطباء والممرضين والمهندسين والأساتذة الجامعيين وعلماء الزلازل والأدباء والشعراء والفنانين التشكيليين والخطاطين والموسيقيين والصحافيين والمحامين ورجال القانون بكفاءات ذات مستوى دولي تملأ المؤسسات الفرنسية وتُساهم في تنشيط ديناميكيتها بقسط كبير. ولو حاولنا تقدير عدد أفراد الجالية الجزائرية في فرنسا في الوقت الحالي لوجدنا أنفسنا أمام تضاربٍ كبيرٍ في الأرقام بِحَسب المصادر والمعايير المتَّخذة في تَحْدِيدِها. عددٌ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ 800000 كَحَدٍّ أَدْنَى و5.000.000 كَحَدٍّ أقصَى يشمل حتى المقيمين إقامة غير شرعية. غَيْرَ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَن مَزْيَانْ شْريفْ ، القُنْصُل العام للجزائر في باريس، تَحَدَّثَ مُؤَخَّرًا عن التقديرِ الذي وَصَفَهُ بِ»المَعْقُولِ« وهو 3.5 إلى 4 ملايين جزائري أو من أصل جزائري بفرنسا. هؤلاء يواصلون في هدوء ورغم الصعوبات مسيرة بناء الجالية المغتربة في فرنسا التي انطلقت قبل أكثر من قرن والتي لم يكتمل بناؤها بعد. جاليةٌ رُبَّمَا لم تُقَدِّرْ السلطات الاستعمارية وهي تحت وطأة الحاجة انعكاسات حُلُولِها على الأرض الفرنسية على مستقبل فرنسا ككل وعلى بُنْية مجتمعها، ممّا يجعل فرنسا اليوم مترددة إزاءها إلى درجة المخاطرة أحيانا بما يعتبره البعض سدّ الآفاق في وجه الأجيال الصاعدة من أبناء وأحفاد المهاجرين الرُّوَاد... انعكاساتٌ ترى الأنفاسُ الأخيرة(؟) للاستعمار الفرنسي، وهي لاتزال موجودة في أقصى اليمين وحتى في بعض زوايا اليمين، أنها تُهدِّدُ فرنسا وأصالتَها ومستقبلَها ب»قذارة« العنصر العربي الأمازيغي المُسلِم وعاداته »المتخلفة« و»ضجيجه« و»روائح بيته الكريهة« وحتى ب»تآمره«... وهو هْوسٌ زَادَتْ درجةُ حرارتِه منذ بروزِ التيار الإسلامي في فرنسا مع مطلع الثمانينيات، ثم بشكل خاص منذ أحداث سبتمبر 2001 م في نيويورك، دون أن ننسى أحداث الجزائر خلال التسعينيات الماضية... لكن تيارات فرنسية أخرى لا تكف، في المقابل، عن التعبير عن سعادتها بالثراء الذي مَنَّ به الحضور الجزائري في بلدهم على الاقتصاد والثقافة والديمغرافيا الفرنسيِّين، وتدعو إلى الكفِّ عن الهِذيان بخصوص ما أصبح يُعرف بالخطر الذي يشكله المهاجرون. بل تذهب هذه التيارات إلى أبْعد من ذلك بالتنديد بالتمييز الذي تتعرض له ليس الجالية الجزائرية فحسب بل كل المهاجرين والأجانب، وتدعو إلى فتح مجال التمثيل السياسي في وجهها بما يتناسب مع دورها في المجتمع بعد كل الذي قدمته خلال أكثر من أربعة أجيال... أثناء حملته على مصر، كان نابليون بونابرت يردد على مسامع جنوده »أيها الجنود، إنكم تخوضون غزوا لا يُمكن التنبؤ بانعكاساته...«. لا ندري إن كان الجنرال دو بورمونت قد جالتْ في خاطرِه نفسُ الفكرةِ وهو يَعْبُرُ »الباب الجديد« مُتَّجِهًا إلى »دار السُّلطان« في قصبة الجزائر في 5 جويلية 1830 م...، لكن ما لا شك فيه هو أنه على السلطات الفرنسية وعلى الفرنسيين جميعا، بمن فيهم ذوي الأصول الجزائرية، أن يُفكِّروا مليًّا قبل أن يُقدِموا على أيِّ خطوة بخصوص التعامل مُسْتَقْبَلاً مع ملف الهجرة في فرنسا... لأن لذلك أيضا انعكاسات... قد لا يمكن التنبؤ بها هي الأخرى... منذ هجرته إلى فرنسا حاملا شهادة الليسانس من جامعة قسنطينة ضمن أمتعته، ألَّفَ الجزائري مالك شَبَّالْ، الأستاذ بالجامعات الفرنسية والباحث المحترم في الساحة الثقافية بهذا البلد، 42 كتابا تدور مواضيعها حول الإسلام والحضارة الإسلامية بشكل عام. وهو مُقبل على نشر أربعة مؤلفات جديدة في العام الجاري... اليوم اختار الحديث »للشروق اليومي« عن الجالية الجزائرية في المهجر الفرنسي التي لا شك أنه مُطَّلِعٌ بعمق على أوضاعها بسعاداتها وهمومها بِحُكم أنه أحد ألْمَع عناصرها. شَبَّالْ اجتاز بسلام المراحل التي يمرُّ بها كلُّ مغترب بكل ما يعني ذلك من صعوبات ومعاناة، ونجح في الخروج منها بسلام لِيُصْبَحَ إيقونة من الإيقونات الثقافية للجالية الجزائريةبفرنسا... هل يمكن الحديث في الوقت الحالي عن وجود إنتلِجَنْسْيَا جزائرية أو ذات أصل جزائري في فرنسا؟ نعم يمكن أن نقول ذلك فعليًا، لكن بشرط أن نُضيفَ على وجهِ السُّرعة بأن هذه النخبة لا تسير ولا تتحرك كنخبة حسب الشكل المتعارف عليه للنخب العضوية المُنْتَظِمَة. أؤكّد مرة أخرى علة ذلك: نعم، للجالية الجزائرية في فرنسا نخبة ثقافية، لكنها مُشَتتة وبالتالي فهي لا تشتغل كنخبة، مما يُفقِدُها القدرة على التأثير. بعبارة أخرى إنها لا تُشبه النخبة السوفياتية أو الروسية التي جاءت إلى فرنسا عندما تمت الإطاحة بنظام القيصر في بداية العشرينيات من القرن العشرين والتي شكلت هنا نمونكلاتورا حقيقية. كما لا تُشبه النخبة اليهودية عقب الحرب العالمية الثانية، أو النخبة اليهودية المغاربية غداة الاستقلالات في المغرب العربي والتي انتهت إلى الاستقرار في فرنسا. ولا هي كالنخبة الإيطالية التي لجأت هي الأخرى إلى فرنسا قبل عقود... إذن، يمكن أن نقول نعم توجد عندنا نخبة ثقافية جزائرية الأصل هنا في فرنسا وهي تمتلك كل المعايير التي تتطلبها حيازة نمونكلاتورة فعلية، لكنها تفتقد إلى التنظيم والتَّهَيْكُل فقط... هل هي نخبة هامة من الناحية العددية؟ نعم، هي هامة عدديا وهذا طبيعي مادامت تعكس الأهمية العددية للهجرة الجزائرية في فرنسا، إنها انعكاسٌ للواقع الجزائري في المهجر الفرنسي. وهل يمكن الحديث عن ثقل أو تأثير انتخابي جزائري أو ذي أصول جزائرية في فرنسا عشية إجراء الانتخابات الرئاسية في فرنسا؟ في اعتقادي لا تملك جاليتنا أيّ ثقل لسبب بسيط يتمثل في كون الجزائريين لا يُصَوِّتُون كَكُتْلَة؛ تَصويتُهم لا يتم بشكلٍ جماعيٍّ وبتجانس، بحيث لا يمنحون جميعا أصواتَهم للاشتراكيين كما لا يمنحونها كلهم لليمينيِّين ولا يعطونها جماعيا لأقصى اليمين أو لأقصى اليسار. سببٌ آخر يحول دون ذلك يتمثل في كَوْنِ انتماءاتهم السياسية انعكاس لمساراتهم الفردية مما يجعل أصواتهم متفرقة. عادةً، حتى يتسنى لك الانتخاب يجب أن تكون حائزا على الجنسية الفرنسية، ورغم أن الكثير من الجزائريين متجنسون، بالفعل، بهذه الجنسية، غير أنهم في مساراتهم وتعبيراتهم السياسية وفي مواقفَهم الانتخابية، لوحظ منذ سنين عديدة بأنه لا يوجد أي تنسيق جماعي فيما بينهم للتأثير في النتائج وفَرض مواقفهم؛ بمعنى أن الكتلة الانتخابية الجزائرية كما هي معروفة الآن تسلك نفس سلوك الكتلة الانتخابية الفرنسية دون اعتبارات ثقافية متعلقة بأصولها المشتركة. ما هو تقديركم لمسيرة الهجرة الجزائرية في فرنسا التي تعود بداياتها إلى أكثر من قرن من الزمن؟ هي بالأحْرَى إيجابية، وأعتقد بأنه عندما نكون جزائريين، أو من أصل جزائري، في فرنسا هناك أسباب كثيرة مدعاة للاعتزاز والرضا على الذات، لكننا لانزال تحت سقف ما هو بمقدورنا تحقيقه أو تقديمه. ما الذي نجحتْ الجالية الجزائرية في فرنسا في إنجازِه حتى الآن بعد كل مغامرة الاغتراب الطويلة هذه؟ قبل كل شيء حققت حضورا نشطا، مسؤولا في غالب الأحيان، على درجة فائقة من الديناميكية، فهي جالية شغيلة، مجتهدة، جدية، وأضيف بأنها ذات نوعية، وإن حضورَها حضورٌ نوعيٌّ؛ إنها جالية فرنكفونية نجحت في خلق تعاطٍ )approche( جديد مع اللغة الفرنسية وفي إثرائها كذلك. كما بَرْهَنَتْ على أنها متعددة الكفاءات، قادرة على الاندماج، لا تشتكي من أيّ شيء بحيث لا تجد تقريبا في فرنسا جزائريا يشتكي من أيّ شيء كان مهما كانت صعوباته، وهذا أمر مثير للدهشة. في نفس الوقت ليست كل الأشياء وردية بالنسبة لهذه الجالية، بطبيعة الحال، لأنها تحتوي أيضا على منحرفين وصعاليك، وعلى مساجين، بل الكثير من المساجين جزائريون أو من أصل جزائري... هل تعتقدون بأن الجالية الجزائرية، أو ما أصبح يُعرف بالفرنسيين من أصل جزائري، تحظى بتمثيل سياسي في فرنسا يعكس مستوى حضورِها العددي والاقتصادي الاجتماعي؟ ما يُلاحظ على هذه الجالية، هو أن أفرادَها عندما يَصِلون إلى درجةٍ معيّنةٍ من الاندماج يُصبحون فرنسيِّين، لأنهم مولودون في فرنسا وبالتالي يرون فيها بلدهم ويصبحون فرنسيين بحيث لا يبقى ظاهرا من جزائريتهم عادة سوى الإسم الذي يتبدّى كجبل الجليد. وأقول جبل الجليد لأن هؤلاء الجزائريين ليسوا من الذين يَتَخَلَّوْنَ بِسُهُولةٍ عن الجذور رغم الاندماج، بحيث أن تحت الاسم يمكن أن نُفَاجَأ بأن ما لا يُرى أو ما هو تحت الماء من هذا الجبل الجليدي جزائريٌّ بَحْت حتى في حالات التَّغيِيرِ الكاملِ للأسماء. لهذا ولِكُلِّ ما سَبَقَ أن قُلتُهُ لك، أَرُدُّ على سؤالك »هل الجالية الجزائريةبفرنسا تحظى بتمثيل سياسي كافٍ؟« ب: نعم وب: لا في نفس الوقت؛ فنعم لأنه يوجد عدد لا يُستهان به من الجزائريين أو ذوي الأصول الجزائرية في دواوين الوزارات، في الشركات الكبرى، في أرْوِقَةِ الفنون، في المصالح التربوية والمصالح الاجتماعية...إلخ. لكن هل يبرز هؤلاء كجزائريين وينشطون كجزائريين أو كمواطنين فرنسيين من أصل جزائري؟ أقول إنهم بالأحرى مصابون بما يمكن أن أُسمّيه داء زيدان. فزيدان فرنسي لكن أصوله جزائرية يتذكرها من حين لآخر. ولهذا قد أَرُدُّ ب: لا، لأنهم لا يتصرفون وهم في مناصبهم وفي مسؤولياتهم بخلفية ثقافية جماعية بل يتصرفون كأفراد. هل يمكن أن تذكر لنا بعض الأسماء الذائعة من الشخصيات السياسية الفرنسية ذات الأصول الجزائرية؟ في المجال السياسي لا يوجد عدد كبير، فهناك وزير قدماء المحاربين السيد ميكاشرة وعزوز بقاق وبضعة أسماء في دواوين الوزارات. هناك أيضا ولاّة (préfet) وإطارات في الداخلية، وفي عدد من الأوساط التقنوقراطية، بحيث يُلاحَظُ وجود عدد من الإطارات العليا في الدبلوماسية، في الثقافة، وفي بلدية باريس... لكن هم موجودون أيضا في عالم الاتصال وفي مختلف الوسائط الإعلامية حيث نعثر على الكثير من الجزائريين أو جزائريي الأصول كصحافيين. بالإضافة إلى حضورهم في قطاعات أخرى كقطاع الصحة، الذي يتضمن عددا كبيرا من الأطباء والممرضين الجزائريين والفرنسيين من أصل جزائري، وقطاع الإدارة بشكل عام، والرياضة... وخلاصة القول هو أن الجزائري قد يصل إلى جميع الوظائف إلى غاية سقف وظيفة النائب في البرلمان و إلى حد ما الوزير، وكُلّما نزلنا إلى أسفل في السلّم الاجتماعي كلما عثرنا على عدد أكبر من ذوي الأصول الجزائرية. لماذا برأيكم تعاني الجالية الجزائرية في فرنسا، وهذا شعورها على كل حال، من عَدمِ تَنَاسُب بين حجمها الديمغرافي ودورها الاقتصادي الاجتماعي الثقافي من جهة، ومدى تمثيلها السياسي من جهة أخرى، إذ كما يعرف الجميع لا يوجد، على سبيل المثال، نائب برلماني في فرنسا من أصل جزائري؟ أسباب ذلك متعددة... السبب الأول هو عامل الوقت بحيث لم يتوفر لدى هذه الجالية الوقت الكافي لبناء ذاتها بشكل كامل، فهي لازالت لم تستقر بشكل تام ونهائي في كل الميادين داخل المجتمع الفرنسي رغم ما تبذله من مجهودات كبيرة. من جانب آخر المجال السياسي يبقى دائما، وفي جميع البلدان تقريبا، المُرَبَّع المُقَدَّس الذي لا يتمّ وُلُوجُه بسهولة والذي يبقى حكرا على أهل البلد. كما هو المربع الأخير على جدول فتوحات أي جالية مغتربة. ويوجد عامل ثالث يتمثل في التمييز الذي يتعرض له »الآخر« الأجنبي عادة والنفور منه ولو في شكل ضمني غير مباشر. مما يُبقي الكثير من الوظائف موصدة الأبواب في وجهه حتى تتغيّر موازين القوى وتصبح في صالحه. بالنسبة للجزائريين، يجب أن نعترف بأن الإسلام ليس عاملا مساعدا على تسويقهم في المهجر الفرنسي، فضلا عن كونهم عربا، وكونهم لهم ماض دام مع الفرنسيين يتمثل في الحرب التحرّرية التي خاضوها ضد فرنسا، بالإضافة إلى عزة الجزائري القوية بنفسه وإبائه وأنفته المعروفة. كما يجب أن نكون صرحاء ونعترف بأن ما جرى في بلادنا خلال التسعينيات أثر تأثيرا جد سلبي على صورتنا في فرنسا. ما هي آفاق هذه المسيرة الاغترابية الجزائرية في فرنسا؟ أراها سائرة على درب النجاح بسلام، وإن كانت تطبعها النجاحات الفردية المشتتة وليس الجماعية. لكن في المدى الطويل سَتُنَظِّمُ نفسَها وستنتقل إلى مرحلةٍ من النشاط والسعي الجماعي لخدمة وطنها الجديد وخدمة مصالحها ضمن ديناميكية المجتمع الفرنسي. فوزي سعد الله