بدأت المهن القديمة النابعة من عمق المجتمع الجزائري تندثر وأخرى في طريق الزوال بسبب تلاشي الطبقة المتوسطة ولم يعد للمواطن الجزائري حاجة لها بسبب الحداثة والتطور وانفتاح السوق الجزائرية الى درجة استيراد كل شيء، مما خنق روح المهن الصغيرة التي لم تعد مصدر الدخل. كان للأسواق الشعبية حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، نفس خاص وحيوية تنبعث من كل مكان وزاوية تستيقظ على صوت قوي ينبعث من حنجرة رجل كهل عادة ما يكون طويل القامة يرتدي زيا تقليديا يجوب السوق ويعلن عن مناسبة زفاف أو جنازة أو يعلن عن ضياع شيء ثمين لأصحابه، إنه صوت البراح الذي يتقاضى في ذلك الوقت 5 دنانير عن كل خبر مقابل أن يجول كل أركان السوق ثم يخرج الى الشوارع الرئيسة ويعلن للناس البشرى أو الحزن. وكان لكن بلدية أو قرية في الجزائر، براح مهنته صوته القوي الذي يصل مسامع أكثر عدد من السكان. منذ عشرين سنة تقريبا، لم نعد نرى هذا الشخص الذي كان عمود الأسواق الشعبية وباتت مهنة البراح في طي النسيان وفقدت الاسواق الشعبية وهجها وروحها وكان للبراح فضل كبير في العثور على الاطفال التائهين وسط زحمة السوق وأعاد الأمانة لمن فقدوا مالا أو ذهبا أو وثائق أو حتى مفاتيح بيت أو سيارة. إنها المهنة التي اندثرت تماما في جل ربوع الوطن، بعد أن فقد البراح الحياة لكبر سنه ولم يرض افراد عائلته أن يسيروا على خطى والدهم، نظرا لتغير نمط الحياة. وباتت إعلانات الزفاف والوفاة والضياع تصدر في إعلانات الجرائد، فلا حاجة لحنجرة البراح. من أرجاء السوق الشعبية القديمة أيضا زالت طاولة الطراح الذي لم يكن يظهر بين شوار الصوف التي يزنها ويحشوها في غطاء يخيطه بيده ويصنع أفرشة العروس مقابل بعض المال. وكانت أفرشة الصوف أساس »جهاز« العروس مما كان الطلب على الطراح جد قوي ويعمل تحت الطلب والموعد المسبق. لكن مع مرور السنين زالت المهنة تدريجيا، لأن موضة أفرشة الصوف باتت قديمة وغير صحية وتسبب الحساسية بحسب الاطباء وأغلب العائلات الجزائرية تخلت عنها وعوضتها بالافرشة »أورتوبيديك« المستوردة من ماليزيا وجنوب شرق آسيا. كما أن سعر الصوف تضاعف وأصبحت نادرة ومتعبة، أفرشتها ليست عملية على حد قول المواطنين.
مهن منعت لدواعٍ صحية ولهذه الأسباب غابت مهنة "الطراح" وأصبحت نادرة جدا، كما غاب عن جو الأسواق الشعبية أيضا حلاق السوق الذي كان يحلق ب10 دنانير للكبار و5 دنانير للصغار بواسطة آلات تقليدية كالمقص وشفرة الحلاقة ثم يبخ عطرا قوي الرائحة من قارورة خضراء اللون على رؤوس الزبائن، كما كان يقوم نفس الحلاق بعمليات ختان الأطفال في البيوت، لكن هذه المهنة زالت لدواعٍ صحية ومنعتها وزارة الصحة واشترطت أن تتم عملية ختان الأطفال في المستشفى أو في عيادات خاصة من طرف طبيب أو جراح. نفس الشيء حدث مع مهنة القابلة في البيوت وهي سيدة تحترف توليد السيدات في بيوتهن في المناطق التي لا تغطيها المراكز الصحية أو لبعدها عن المستشفى، فكانت أغلب سيدات الأرياف والقرى تلدن على يد القابلة، تعرف بصبرها وشجاعتها، تكرم ببعض المال وتلقب ب»جدة« المولود. لكن نظرا لصعوبة الظروف والمخاطر الصحية التي أصبحت الحوامل تعاني منها، كالضغط الدموي والسكري والقلب، باتت مهنة قابلة البيوت فيها الكثير من المسؤولية والخطر على صحة الأم والجنين. كما انقطع صوت الصراخ بين الاحياء والمساكن المنبعث من حنجرة شخص يحمل قارورة غاز وأنبوب وقفة بها بعض المواد الكيماوية ينادي ربات البيوت اللاتي لديهن أواني نحاسية مكسورة يصلحها في الحين أو يبيضها بواسطة الفحم ومواد مزيلة ل»الزنجير« وهذه كلمة موجودة في الفيزياء عبارة عن طبقة خضراء اللون تتشكل نتيجة أكسدة النحاس، هذا الشخص وهو مصلح الأواني النحاسية كان يقطع مسافات طويلة ويتنقل من ولاية لأخرى ليصلح النحاس ويلحمه مقابل بعض المال، لكن هذه المهنة لم تعد موجودة لأن ربات البيوت تخلين تدريجيا عن الأواني النحاسية وألقين بها في المزابل قبل أن تعود هذه القطع لواجهات المحلات في شكل تحف تباع بأسعار باهظة.
الأسفنجة السحرية تعوض ملمع الأحذية أما ماسح الأحذية فانقطع أثره بعد الاستقلال في الاسواق، نظرا لفكرة الجزائريين بأن مسح الأحذية هو نوع من الإذلال ودهس لكرامة الإنسان، في حين أن مسح الأحذية مهنة نجدها في أرقى المجتمعات التي تدافع عن حقوق الإنسان، فداخل مباني الهيئات الدولية في أوروبا وأمريكا يوجد شخص مجهز بكرسي خشبي يجلس فيه المسؤول أو الموظف ويمد قدمه لملمع الأحذية وهو عادة من الأفرو أمريكيين أو المهاجرين الافارقة في أوروبا وبعد الانتهاء من تلميع الحذاء يتقاضى ملمع الاحذية دولارا أو دولارين. لكن ملمع الأحذية في الجزائر لم يعد موجودا، فهي مهنة منعت بقرار سياسي في سنوات حكم الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي رفض أن يمسح الجزائري حذاء الجزائري أو غيره لما فيها من »إهانة« حسب الروايات. كما أن المواطنين الجزائريين ليسوا بحاجة إلى ملمع الأحذية بسبب »الاسفنجة السحرية« التي يحملها أي شخص في جيبه ويخرجها في حافلة أو على الرصيف ويلمع حذاءه بنفسه. من الأشياء التي فقدها المجتمع الجزائري، مهنا وحرفا عوضتها الصناعات الحديثة، فالحياكة أو »المغزل« غابت تماما ولم نعد نسمع عنها سوى في بعض الولايات التي تسعى للحفاظ على صناعاتها التقليدية، فالسيدات اللواتي كنّ يجلسن لساعات طويلة لغزل الصوف ولفها حول ساقها بواسطة المغزل ثم تحيك زربية أو غطاء من الصوف وبقايا القماش هن الأخريات لم تعدن موجودات، فالزرابي التركية والبلجيكية والصينية تملأ الاسواق الجزائرية، فلم يعد للسيدات حاجة في الغزل أو الصناعة التقليدية التي تأخذ وقتا طويلا وتعبا لا يعوضه الثمن البسيط الذي تتقاضاه عن عمل أسبوع كاملا بدون انقطاع. وفي لقائنا ببعض الشيوخ الذين يعيشون العقد الثامن من العمر، يتذكرون أشياء كثيرة عن الحرف والأعمال التي لم تعد موجودة، لأن المجتمع لم يعد بحاجة إليها، فقال لنا أحد الشيوخ إنه كان يربي عشرات الأحمرة والبغال في الريف ويقصده يوميا أشخاص يستأجرون هذه البهائم لنقل أغراضهم أو عائلاتهم أو نقل بضاعتهم ومحاصيلهم لبيعها في السوق مقابل 5 دنانير لليوم، هذه مهنة كانت في السبعينيات من القرن الماضي وبقيت تمارس حتى الثمانينيات منه، لكن مع دخول السيارات والحافلات والنقل الريفي، لم يعد أحد يستخدم الحمار ولا أحد يستأجره أو يؤجره حتى في الارياف.
«سوبر غلو» عوضت الإسكافي من بين المحلات التي لم نعد نجدها لا في الأسواق ولا قرب المقاهي أو الاحياء الشعبية، محلات الإسكافي، فمهنته أيضا في طريق الزوال. فالجزائريون استغنوا تدريجيا عن الاسكافي، نظرا لسوق الأحذية التي تشكل نوعين أحذية صينية تتمزق وترمى في المزابل مباشرة ولا يجد الاسكافي ما يصلح فيها، ونوع الاحذية الجيدة الجلدية المتينة التي ترمى بعد سنوات من انتعالها دون أن تتمزق. كما يقول إسكافي، إن أحد المواطنين عرض عليه تصليح حذاء ممزق فقال الاسكافي، إنه سيصلحه ب400 دينار، فأخذه صاحبه ورماه في سله المهملات وقال ب400 دينار سأشتري حذاء آخر من السوق. كما أن الفرد الجزائري يملك في الوقت الحاضر ما لا يقل عن 5 إلى 10 أزواج من الأحذية مما يجعل عمرها طويلا ولا تتمزق بسرعة. كما يستعمل جل الجزائريين علبة غراء صغيرة مرافقة للاحذية الصينية تسمى »سوبر غلو« سعرها 25 دينارا يلصقون بها أحذيتهم بأنفسهم وتفي بالغرض، بحسب هؤلاء، وهي تعوض الإسكافي الذي يستغرق الذهاب إليه وقتا وانتظارا ويدفعون مقابل تصليح الحذاء ما يقارب ثمنه في السوق، على حد قولهم. ولهذه الأسباب صرف الناس النظر عن احتراف هذه المهنة مع مرور الوقت فلا نجد في قرية مثلا سكانها 40 ألف ساكن سوى إسكافيين فقط.