بقلم: خضير بوقايلة: kbougaila@gmail.com صدقوني، لم أعد أستوعب كثيراً ممّا يحدث في هذا البلد الكريم، ومن بين هذا الكثير أودّ أن أستعرض أمراً واحداً لعلي أجد عند أحدكم تفسيراً له. والحق أن هذا الأمر ليس وليد فترة صاحب الفخامة، بل هي فكرة قديمة ولا تزال منتشرة في عدد من المناطق المتخلفة من عالمنا، لكنها ازدادت حدة في السنوات أو لنقل في الأشهر الأخيرة. الظاهرة تتلخص في كلمات معدودات هي (تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية). هل لاحظتم معي كيف أصبحت الجزائر كلها تتحرك (هذا إن تحركت) على إيقاع الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية؟ أحيانا أتساءل عن صاحب هذه الفكرة السديدة التي جعلت العالم عندنا ينبهر بسحر هذه الكلمة فتراه يرددها قبل كل حركة يؤديها. فعلا أنا أريد أن أعرف من الذي جعل الجزائريين في مختلف مستوياتهم يرتبطون إلى حد الجنون بهذا المصطلح السحري. هل هي أوامر سامية صادرة عن صاحب الفخامة إلى الجميع؟ وما هو الغرض من سياسة الرعاية أو الرعي السامي لحركة كل دابة على هذه الأرض الطيبة؟ الوزير لا يزور ولا يتفقد ولا يفتتح ورشات العمل والملتقيات إلا إذا كانت تحت الرعاية السامية لفخامته، وإذا نطق بأية كلمة في أي موضوع، ولو كان عن تأجيل موعد إقلاع طائرة فلا بد أن يعلم الرأي العام الكريم أن ما سيقوله إنما هو بتوجيه سام أو برعاية سامية من فخامته. والوالي لا يتحرك إلا إذا صنف عمله ضمن خانة الرعاية السامية لفخامته. ومسؤول تلك المنظمة لا يجتمع بقومه إلا ليقول لهم إنه فعل ذلك برعاية سامية من فخامته. والذين يحضرون كل هذه النشاطات والمهرجانات لا يفعلون إلا لأنها فخامته هو الذي يرعاها. الاحتفالات بالأعياد الوطنية والدينية لا بد أن تكون تحت الرعاية السامية، والامتحانات الوطنية لن يكون لها طعم إذا لم تكن تحت رعايته السامية، حتى نتائج هذه الامتحانات لا بد أن تكون تحت الرعاية. المواطن لا يحصل على سكن لائق إلا إذا نزلت عليه الرعاية السامية ولا بد أن يعلم ذلك جيدا وينوّه به أمام التلفزيون ويطلق زغرودة عالية تحت رعايته السامية. الغاز الطبيعي لا تدخل بيوت الناس إلا إذا مرت عبر قناة الرعاية السامية والطريق لا يُعبّد إلا إذا حضرت الرعاية السامية. التلفزيون والملصقات في الشوارع تغص بالرعاية السامية، الرعاية السامية ترعى المهرجان الدولي (كم دولة تحضر) الأول للفيلم العربي، هل فهمتم ما علاقة الفيلم العربي بالمهرجان الدولي؟ يكون ذلك ممكنا عندما تنزل عليه العناية السامية. مهرجان تيمقاد الدولي (هو الآخر) تحت الرعاية السامية. وآخر بدعة هي أن الرعاية السامية عمت أيضا مهرجان الكازيف (الدولي، ما عليهش!)، (والكازيف لمن لا يعرف هو فضاء في فندق المنار بسيدي فرج تقام فيه حفلات الشطيح والرديح للمصطافين)، مهرجان ليالي الكازيف تسربت إليه رعايته السامية، وآخر الأخبار تقول إن الفنانة العالمية القديرة باسكال مشعلاني اشترطت حضور الرعاية السامية حتى تطرب شباب الجزائر وتنسيهم هموم البطاطا والبطالة. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل إن الرعاية السامية لم تترك مكانا ولا نشاطا إلا غمرته بعنايتها، ملتقى الزوايا، معرض الكتاب، معرض الصناعات، معرض البذور الفلاحية، معرض السيارات، معرض الشريط الديني. كم هي كريمة وخارقة هذه الرعاية السامية التي ترقص مع الراقصين في الليل وتصلي الفجر مع المصلين وتجوب الولايات والقرى في النهار! أتوقّع إذا استمرت الرعاية السامية في اكتساح الساحة أن نستيقظ يوما فنقرأ على صدر هذا المنتحر أو ذاك وما أكثرهم ورقة كُتب عليها إن انتحاره كان تحت رعايته السامية، أو نجد شبابا يعلقون على قارب الموت الذي يستقلونه إلى المنفى لافتة كتب عليها رحلة العمر تحت الرعاية السامية. قيل لي إن الرعاية السامية لا تعطى قبل أن يتقدم المرعي بطلب رسمي ثم تأتيه الموافقة السامية، ولا أخفيكم أنني أفكر من الآن في تحضير هذه الرسالة لأطلب الرعاية السامية لحفل زفاف ابني البكر، وبهذا أضمن حضورا مكثفا لفرق التلفزيون ومجموعات الكازيف وتيمقاد والزوايا وكل الذين يشملهم الرعي! أما إذا سألتموني عن معنى ومغزى وفائدة هذه الرعاية السامية فإنني أعترف لكم أنني لا أعلم وعلينا في هذه الحالة أن ندعو إلى ملتقى وطني أو دولي حول مفهوم الرعاية السامية يكون بطبيعة الحال تحت الرعاية السامية! كنت أنوي أن أكتب الأسبوع الماضي عن حدث فريد من نوعه عاشه التلفزيون الجزائري، لكن موضوع النشيد الوطني في بيت السفير الفرنسي أخذ كل مساحة المقال، لهذا أرى أن الوقت لا يزال صالحا للتطرق إلى هذا الحدث، وهو في الحقيقة لا يخرج عن دائرة الرعاية السامية. أدى وزير الاتصال الأخ عبد الرشيد بوكرزازة زيارة عمل إلى مقر التلفزيون، وبما أن الزائر وزير ومكان الزيارة هو التلفزيون فإن التغطية الشاملة مضمونة وهذا لا غرابة فيه. لكن الغرابة هي في كيفية إخراج هذه الزيارة وتقديمها للمشاهد الكريم. مقدمة النشرة قالت إن زيارة الأخ الوزير جاءت (في إطار تجسيد الأهداف المسطرة في برنامج الحكومة). ثم فسحت المجال للتقرير الإخباري المصور، اقرأوا ما قاله المكلف بتغطية الزيارة (زيارة الوزير إلى مقر التلفزيون جاءت في إطار تطبيق البرنامج الخماسي لفخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة وتجسيدا للأهداف المسطرة في برنامج الحكومة الرامي إلى عصرنة القطاع السمعي البصري في الجزائر)، كلام آخر طويل وعريض قبل أن يفسح المجال لمعالي الأخ الوزير ليحدثنا عن ثلاثة محاور هي أساس البرنامج الخماسي. أولا: تثبيت وتعزيز المصالحة الوطنية والسلم وبصورة عامة الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد. ثانيا: مواصلة بناء دولة الحق والقانون وإعطاء كل المكانة لترقية التعددية وممارسة حرية التعبير. ثالثا: التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والدفاع عن مصالح الوطن وترقية صورة الجزائر. هل فهمتم علاقة الزيارة بالبرنامج الخماسي لفخامة السيد رئيس الجمهورية؟ وهل فهمتم علاقة التلفزيون بدولة الحق والقانون وحرية التعبير وصورة الجزائر؟ طلبت من بعض الزملاء والأصدقاء في التلفزيون أن يوضحوا لي الصورة، لكن الذي لم أفهمه أنا هو لماذا لم تُدرج هذه الزيارة تحت الرعاية السامية؟! ولا أريد أن أرجئ إلى الأسبوع القادم كلاما رائعا أتحفنا به معالي وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي يوم الخميس الماضي خلال كلمة ألقاها في اجتماع لا أعلم إن كان الرعاية السامية هيمنت عليه أم لا. ماذا قال معاليه؟ قال لكم أيها الجزائريون وبلغة عربية فصيحة جدا وبإلقاء متأنّ إن الحكومة اطلعت على أوضاع البلد وأحوال الناس وخلصت إلى ما يلي (وجدنا أن فيه تحسنا في القدرة الشرائية للمواطن)، وبما أن أصحاب المعالي لا يتكلمون من فراغ فإنه ساق لنا الدليل الدامغ عندما أشار إلى أن الحد الأدنى للأجور ارتفع بنسبة 66.2%، وهذا الارتفاع بدأ سنة 1999 إلى غاية سنة 2007. طبعا قبل 99 لم يكن هناك أي ارتفاع ولا أية مؤشرات جديرة بالعودة إليها وبعد 2007 سيستمر الارتفاع ما دامت الرعاية السامية تحمل عصا الرعاية! هل هناك بعد الآن من يجرؤ على القول إن المواطن فقير والقدرة الشرائية في تدهور والغلاء مسيطر؟ خسئ كل من يقول هذا الكلام وليعلم كل الذين يلجؤون إلى الانتحار بحجة سوء أحوال معيشتهم وكل من يسمح لنفسه أن تموت جوعا وكل من يمد يده طلبا للصدقة أو الزكاة وكل من يقول إنه لم يجد عملا يقتات منه وكل من يحرم أولاده من الدراسة لأنه لا يقدر على دفع مصاريف التعليم وكل من يبحث له عن عمل إضافي في سوق الحراش، ليعلم كل هؤلاء أن لا أحد سيصدّقهم بعد الآن لأن معالي الوزير قد فضحهم وقال وقوله الفصل إن الحكومة تقول لكم إن القدرة الشرائية للمواطن قد تحسنت، وإذا لم تصدقوا فجربوا أن تنزلوا إلى السوق وأنتم ترددون هذا التصريح وستجدون أن القفة امتلأت وكل أموركم تحسنت!