يُعرَّف المرض بصفة عامة بالضرر غير الطبيعي الذي يصيب عضوا ما أو مجموعة أعضاء من جسم الإنسان مما يعطل أو يشل وظائفه الأساسية بصفة مؤقتة أو دائمة ويشعر خلالها المصاب بالتعب والقلق والألم في بعض الأحيان، ما يجعله غير قادر على ممارسة وظائفه المهنية والاجتماعية كما ينبغي، وقد يكون المرض جسديا أو نفسيا ويكون السبب فيه مرتبطا بالتعرض لعدوى منجرّة عن كائنات مجهرية كالبكتيريا أو الفيروسات وغيرها أو عن مواد كيميائية يتعرض لها الإنسان أو حتى نتاج سلوكياته اليومية داخل مجتمعه فيما يخص نمط غذائه ونومه وتسييره للتوتر والقلق. وبعيدا عن التعاريف الكلاسيكية المعتادة، فقد يكون الذي نسميه مرضا عبارة عن جهد طبيعي يبذله الجسم أو العضو لتحقيق توازن فيزيولوجي قد فقده ظرفيا فيكون إذن بصدد تحقيق الشفاء الذاتي لتوفره على ميكانزمات معقدة لإصلاح عديد الاختلالات، فنقول بأن الجسم يحدث المرض من أجل العلاج والشفاء، وينبغي أن لا نستعجل العلاج بل يجب السعي لتدعيم هذا الجهد الطبيعي الدي أودعه المولى تعالى في أجسامنا، مما يعني أنه ليس كل اختلال وظيفي لعضو ما يحتاج إلى علاج. وأول من أشار إلى هذا المفهوم كان الجراح والفيزيولوجي الفرنسي البروفيسور "ريني ليريش" في بداية النصف الأول من القرن العشرين حينما عارض المدرسة التشريحية-السريرية التي تقوم على البحث عن الخصائص المادية التشريحية لمرض ظهرت أعراضه الكلينيكية أو السريرية، وذكر مقاربة أخرى سماها الحالة المرضية-الوظيفية والتي تقوم على أساس أن جسم الإنسان مؤهل لأن يصلح ويرمم بعض الإصابات وقادر على الدفاع عن نفسه، وما تجلي تلك العلامات غير الطبيعية والمعبر عنها بالحالة المرضية سوى رد فعل كمي زائد قصد الإصلاح أو التصدي فقط. وهذا الطرح ينسجم تماما مع ملاحظات الطبيب الاسكتلندي "جون براون" الذي قال إن الفرق بين الحالة العادية والحالة المرضية يكمن في درجة الشدة؛ إذ أن كل الأمراض عبارة عن زيادة أو نقص تهيّج فيزيولوجي لا غير، وأكد الطبيب براون أن كل الاختلالات التي تصيبنا هي عبارة عن هذا التهيج النسيجي والذي يتعين تهدئته بإحالة الجسم على الراحتين؛ أي الانقطاع الدوري عن الأكل والتهدئة العصبية، قال تعالى "وإن تصوموا خير لكم أن كنتم تعلمون" وقال "ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" وبعد الراحتين يجب إنقاص الدم "دور الحجامة عندنا"، فتاريخيا نجد أن تطورا كبيرا طال الممارسات الطبية وكذا طبيعة الأمراض، فتغير نمط حياة الإنسان منذ القِدم صاحبه ظهور بعض الأمراض والتي صاحبته فترات ثم تغيرت نوعيتها لأن الإنسان الذي كان يعيش على الصيد وأكل ما أنبتت الأرض كان كثيرا ما يتنقل من مكان إلى آخر بحثا عن أرض أخصب وأماكن أوفر صيدا، فكانت حياته طبيعية بامتياز وكان كثير الحركة دؤوبا، ثم تحول فيما بعد إلى حياة المزارع في بيئةٍ اجتمع فيها الكثير من الناس، وصاحب ذلك استقراره وتقلص حركته واستئناسه بالحيوان، الأمر الذي كان بمثابة البداية لاتساع رقعة ونطاق الأمراض وتعدد أشكالها وبعد ذلك ظهرت المدن المكتظة وصاحبها التصنيع والانتقال إلى عالم جديد. وعلى هذا الأساس فإنه كلما تعقَّد الوجودُ الانساني تعقدت معه العوامل المؤثرة في صحته وزادت أشكالها وأعدادها، ومما زاد الطين بلة هو إنتاج مئات الأدوية الجديدة مع بداية القرن الواحد والعشرين والاستغناء عن المواد العلاجية الطبيعية التي كانت متوفرة بكثرة رفقة نحو اثنتي عشرة مادة مصنعة فقط خلال أوائل القرن العشرين، وخلال هذه الفترة اكتشف العالمان "ارنست ستارلنج وبايليس" المراسلات الكيميائية في الجسم أو ما نسميه بالهرمونات، وبعدها بنحو ثلاثين سنة صنع "غريغوريغودوين" أول هرمون اصطناعي، ثم قام رفقة علماء اخرين بتركيب أول دواء لمنع الحمل في تاريخ البشرية، وكان ذلك بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وقبلها بسنوات قليلة كان عالم النباتات والاحيائي البريطاني "اليكسندر فليمينغ" قد اكتشف البنيسيلين، وبالرغم من الفوائد الجمة التي حققها هذان الاكتشافان في مواجهة بعض الأمراض الميكروبية وبعض الاختلالات الهرمونية إلا أنهما ساهما بقوة في ظهور واستفحال أمراض سرطانية جديدة وأعراض غير معهودة نظرا للتعاطي المفرط لمختلف العلاجات من قبل الانسان على مر السنين، ويتوفر جدول التصنيف الدولي للأمراض والساري المفعول على 14400 رمز خاص بمختلف الأمراض والاختلالات. وبعد نحو ثلاثين سنة تضبط المنظمة العالمية للصحة قائمة جديدة قدِّمت أمام الجمعية العالمية للصحة خلال شهر ماي من السنة الماضية والتي سوف تدخل حيز التطبيق بداية من أول جانفي 2022 وتحتوي على رقم مرعب لتعداد الأمراض والإصابات والذي يصل إلى خمسة وخمسين ألف رمز. هذا المنحى التصاعدي الرهيب لعدد الأمراض جعل عديد العلماء والأطباء يعيدون النظر في مفهوم الصحة العمومية وسلمية إسداء مختلف العلاجات قصد ضبط الإفراط في التعاطي مع التطبيب وتسيير الحالات النفسية التي تدفع بعض المرضى لتثبيت أنفسهم في خانة "المريض الأبدي أو المريض الخالد" بالرغم من أن جل هذه الحالات هي نتاج النظرة الميكانيكية للجسم والتي زادت من إنتاج الأمراض ونتاج النظرة الداروينية في التعامل مع الطبيعة والتي تحث على محاربة كل كائن دقيق بلا هوادة علما أن الانسان بدأ حياته في الطبيعة بين الكهوف والغابات وتفاعل إيجابا مع الطبيعة وطوَّر مناعة معتبرة وقوة جسمية هائلة وكانت عموما صحته جيدة، وخير مثال بقي موجودا في عصرنا مكرسا هذا الطرح يتعلق بأسرار حياة قبيلة "الهونزا" الأكثر عمرا والأفضل صحة في العالم إذ يعيش أفرادها حتى سن المائة والأربعين وأحيانا أكثر وتنجب نساؤُهم حتى سن الستين لأن طول عمرهم مدَّد وغيَّر من فيزيولوجياتهم، وتعيش هذه القبيلة في شمال باكستان وبالضبط في مقاطعة "كاراكورا"بجبال الهيمالايا على علو يصل الألف وثماني مائة متر في مكان معزول عن العالم كله بحضارته وسياساته وثقافته ومستشفياته متبنين أساليب حياتية بسيطة جدا أتاحت لهم التمتع بصحة جيدة وعمر مديد، وتعتبر هذه القبيلة واحدة من اكثر المجتمعات سعادة في العالم فضلا عن ان الأمراض لا تعرف إلى مجتمعهم سبيلا إذ لم يظهر بينهم أي مصاب بأيٍّ من امراض القلب والسرطان والسكري أو ضغط الدم والبدانة أو أي من الأمراض المزمنة المتفشية في العالم أجمع، فسكان الهونزا لا يزالون محافظين على نمطهم المعيشي الفلاحي الذي يعود إلى ألفي سنة مضت. ولمعرفة سر طول عمرهم وصحتهم درس العلماء معيشتهم ونظامهم الغذائي فاتضح لهم أن تمتعهم بهذه الصحة الجيدة يعود إلى ما لا يأكلون أكثر مما يعود إلى ما يأكلون فهم لا يأكلون كثيرا معتمدين على وجبتين في اليوم ومجموع السعرات الحرارية اليومية للفرد لا تتعدى الالف وتسعمائة كيلوكالوري، بينما يصل ذلك عند الفرد الأمريكي إلى 3300 كيلوكالوري، أما نوعية الطعام فمعظمه من الخضر والبقول ويعتمدون كثيرا على النيء بما يعادل الثمانين من المائة من أكلهم ويشربون مياها معدنية نقية ويعيشون في بيئة غنية بالأكسيجين ويمارسون أعمالا تعادل التمارين الرياضية التي يمارسها الرياضيون المحترفون عندنا ما يساعد بقوة في تحسين الدورة الدموية في الجسم وطرح السموم منه، ويحتوي غذاؤهم على كثير من الخمائر ويكثرون من الفواكه ويعقدون جلسات تأمل لربع ساعة يوميا، ما يؤدي إلى هدوء الاعصاب وزيادة القدرة على التركيز، فهم ينامون مع بداية الظلام ويستيقظون مع صلاة الفجر لأنهم مسلمون ملتزمون وهم لا يستعملون السكر والكربوهيدرات المكررة إطلاقا ويستحمون بالماء البارد ولا يأكلون ما أنتجته الصناعة، وقد توصل الدكتور "روبير ماك اريسون" إلى أحد العناصر الأساسية في نظامهم الغذائي وهو المشمش المجفف الذي لا يفارق موائدهم والذي يعتبر مشبعا جدا بمضادات الأكسدة الواقية من السرطانات والحامية للقلب والأوعية وكل الأمراض التنكسية، وعند تجريب نمط معيشتهم على الحيوانات زادت أعمارها بنسبة أربعين من المائة. ويقول العلماء إن من يتبع نظامهم المعيشي قد يزيد في عمره ما بين أربعين وستين عاما، ويحضرني هنا ما قاله الطبيب الفرنسي "فريدريك صالدمان" من أن كل وفاة قبل مائة وعشرين سنة تعتبر مبكرة نظرا للتأهيل الخارق الذي يتوفر عليه الجسم في مجال الدفاع المناعي والترميم يبقى فقط العودة إلى العيش بعيدا عن المؤثرات والكيميائيات قدر المستطاع والاعتماد في التغذية على ما انبتت الأرض لأنه يستحيل اليوم أن يدخل مريضا أو متمارضا عند طبيب ما ولا يخرج بوصفة طبية، فلا بد إذن من العمل على تقنين توفير العلاج الذي تستحقه الحالة الطبية للمريض وليس العلاج الذي يطلبه المريض دائما حفاظا على سلامة جسمه من أعراض الإفراط في التداوي وعواقبه على حياة الفرد والمجتمع، لأنه ليس كل عارض يشكو منه الانسان يحتاج إلى دواء، فقبيلة الهونزا لا تعرف الأطباء ولا الأدوية قط وصحتهم الأفضل في العالم.