"لو استطعت أن أبيع ذهبي لأزور عائلات العسكريين الذين اغتيلوا في ثكنة دلس المغتالين واحدا واحدا وأعزيهم في أبنائهم وأطلب منهم العفو والصفح لما تأخرت...نبيل غدر به كما غدر بأبناء هؤلاء". بالكاد كنا نحاول تهدئة والدة "أبو مصعب الزرقاوي الحراشي" وهي تثور تارة وتبكي أخرى وتدخل في حالة من الهستيريا مرة أخرى، ونحن نحاول وسط كل هذا البكاء والنواح معرفة حقيقة ما أخذ نبيل بلقاسمي ابن 15 عاما إلى صفوف الجماعات المسلحة وهو لم يبلغ من السن إلا ما يمكنه مع هذا الدخول المدرسي من اجتياز امتحان شهادة التعليم المتوسط. فعلا الموقف لم يكن سهلا على احد، لكن يمكن تصور أي نوع من الموت والجنائز، فقد دفنت العائلات أبناءها بعد مرض عضال، حادث سير، حادث عمل، سكتة قلبية، جرائم أو حتى عمليات إرهابية واغتيالات مثلما دأبت عليه الجزائر منذ 15 عاما خلت، لكن أن يقام مأتم في بيت عائلة شارك ابنها في عملية انتحارية فالموقف فعلا لا يشبه أي موقف "حتى جنازته لن تقام" ملثما قالته أحدى القريبات. من قال أن نبيل انتحاري !!؟؟ كان جو بيت العائلة جوا جنائزيا ممزوجا بفاجعة من نوع خاص، ولاحظنا أن المعزون كانوا يجدون الحرج في طلب الصبر للوالدين على فقدان ابنهما، لكن بطعم الاستغراب والحسرة على ما تبع موته من كارثة حقيقية في الأرواح البريئة والممتلكات، فكانت الكلمات فعلا شحيحة في مثل ذلك الموقف، امتزجت عبارات المواساة بالحسرة على ما آلت إليه الجزائر بفعل هؤلاء "المجرمين الذين لا يخشون الله ولا يراعون ذمة" حسب بعض القريبات، ليجتمع حديث غالبية الحضور على الدعاء على من "حولوا الجزائريين إلى أعداء بعضهم واجبروا شباب وأطفال على اقتراف جرائم لم يفكروا فيها إطلاقا".. ووسط هدوء انتاب الضجيج والبكاء من تعب الأم والأخوة والقريبات، دخل مراهق من سن "الزرقاوي" ليصرخ في وجوهنا وكأنه يفتح تحقيقا معنا "كيف تصفوا نبيل بالانتحاري؟؟" ومن شدة انفعاله لم يترك لنا فرصة للأخذ والرد معه، وبعد سؤالنا عن هوية هذا الطفل المراهق عرفنا أنه صديقه الحميم "بل أخي" كما صحح لنا. وكانت تبدو عليه علامات الانفعال رغم سنة الصغير، فهو أيضا لم يتعد الخامسة عشرة وناقشنا بمنطق الأطفال لكن بحكمة الكبار "كيف تسمونه انتحاري وقد أرغم على اقتراف ما فعله غصبا عنه ودون حول منه... فالرسول عليه الصلاة والسلام قال رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ونبيل أكره على الفعل دون نية منه ولا إرادة فهو "عند الله بريء" مضيفا أن سيرته في الحي تبين أنه "لم تكن في نيته يوما الاعتداء على أحد أو إضمار الشر لأحد" مذكرا بمرات تشاجر فيها أخوته مع أترابهم في الحي حول مسائل تخص المراهقين فتطلب منه والدته التدخل لفك الخلاف لصالح أخيه "فيرفض ويقول لها "أخي هو الظالم" ولا ينتصر له لأنه "يعرف حقوق غيره ولو تعلق الأمر بأقاربه". جهاز حاسوب لمراجعة دروسه ومثل الحالات التي سبقت من تجنيد الجماعات المسلحة لشباب من مستويات اجتماعية متدنية وضعيفة، تحرّينا عن المستوى الاجتماعي الذي يعيش فيه مفجر ثكنة دلس والتي راح ضحيته 35 من حرس السواحل، فوجدنا هذا المراهق يعيش وسط طبقة اجتماعية متوسطة ليست بالمرفهة الثرية ولا بالفقيرة المعدمة لكن الوالد وفر لأبنائه كل ما يحتاجون، بدليل ملابس نبيل التي لا زالت والدته تحتفظ بها في رزمة بعرقها ورائحة جسمه مثلما نزعها ابنها عن جسده منذ 4 أفريل تاريخ اختفائه والتحاقه بتنظيم "الجماعة السلفية للدعوة والقتال". ففيها القمصان والجلابيب وفيها ملابس الرياضة وملابس المدرسة، حتى أن والده جلب له من كل أنواع الجلابيب من تونس لأنه يعشق لبسها. حتى المكان الذي ينام فيه هو وإخوته الذكور فيه مكان لمراجعة الدروس ومكان للنوم وحتى جهاز الكمبيوتر يمتلك "الزرقاوي الحراشي" واحدا جديدا اقتناه الأب للزوم دراسة نبيل وإخوته "إخوته يطالبون بأن ندخل الانترنت للبيت لكنه أبى خشية اطلاعهم على مواقع غير لائقة" فهو الأكبر في الإخوة وكلمته مسموعة من قبلهم. مراهق ملتزم ونشيط مقبل على شهادة التعليم المتوسط كان يمكن لهذا المراهق حسب ما أكده أحد أقاربه في هذه الفترة مثل باقي أترابه، أن يكون بصدد التحضير للدخول المدرسي 2007/2008 و يفترض أن يكون ضمن التلاميذ الذين يجتازون هذه السنة امتحان التعليم المتوسط، فهو من مواليد سنة 1992 وكان نشيطا في المدرسة، ووعد أمه بان يجتهد وينتقل إلى الثانوية "..لكن القدر كان أسرع إليه" قالت والدته. بالإضافة إلى الدراسة كان المراهق الذي سيرتبط اسمه مع تفجير ثكنة دلس، مواظبا على الصلاة وصوم النوافل رغم سنة الصغير، وكثيرا ما يكون صائما أيام الاثنين والخميس حسب شهادة أصدقائه "وهو عندما يفطر يحب أن يقاسم أصدقاءه أكله ولو كان فطورا في أبسط ما يكون". ولأنه ملتزم ومواظب على صلاته ونسكه كان هو من غسّل جده لأنه عند وفاته رغم صغر سنه، لأنه يحبه إلى أبعد الدرجات. وهو رياضي أيضا يمارس التايكواندو ومنخرط في الكشافة الإسلامية حسب أقاربه ومنضبط في سلوكه مقارنة مع أترابه، حيث كان آخر موعد لم يعد منه، هو صلاة الفجر في مسجد الحي بالكاليتوس يوم 4 أفريل عندما خرج للصلاة وكان من عادته الحديث للأصدقاء وتدارس القرآن قبل التوجه إلى المدرسة فيما بعد والدليل أنه أخذ محفظته ذلك اليوم، وكانت علاقته بالقرآن وطيدة، حيث يكون قد حفظ 27 حزبا حسب والده. سيارة اقتادته إلى وجهة مجهولة.. وكان يريد الفرار!! حديث في البيت كان يدور ونحن حاضرون بين الأهل والجيران والمعزين الذين كانت تدخل منهم كل فترة وفترة مجموعة، حيث بدأت أخبار تتسرب هنا وهناك عن اقتياده ذلك اليوم الذي غاب فيه "هناك من شهد أن نبيل وهو واقف يتحدث مع صديق جاءت سيارة وتوقفت عنده ويكون صاحبها قد سأله عن شيء وعندما أجاب من مسافة بعيدة، يكون أصحاب السيارة قد طلبوا منه الاقتراب للحديث معه، وعندما اقترب أدخل السيارة بالقوة لتأخذ طريقها إلى وجهة مجهولة". هذا الحديث ظهر عندما عرف مصير المراهق، لكن لا أحد أخبر به في وقته "لكنّا تصرفنا" حسب والده، لتعترف أمه وهي تبكي في لهفة أن آخر ما سمعته منه عبر الهاتف وهو يبكي مثل الصبيان في سنه "أريد أن أخلص أريد أخرج من هنا أنا وسط غابة ومقابلنا وادي". "أبو مصعب" بكى مرارا وهو يكلم والدته من هاتف "مجند" جديد استقدم إلى صفوف الجماعة بعثت له أمه تعبئة على الخط إياه، فشكى لها من وحشة المكان وكيف يريد أن يخرج من هناك، ربما كان متحمسا في الأول للمقاومة في العراق، لكن الواقع الذي قابله جعله يبكي بكاء مرّا فيتلوع كبد أمه عليه ولا تجد لإخراجه من هناك سبيلا إلا انتظار ما ستفضي إليه التحقيقات. آخر عهده بالدراسة.. بحث حول البيئة وملوثات الهواء ربما يكون ترتيب هذا الصبي وسط إخوته الخمسة ( أكبرهم) ما جعل مكانه في عائلته كبيرا، وكثيرا ما كان يجلس إلى والديه لحثهما على مزيد من الانضباط وأداء العبادات في صورتها الصحيحة، لكن الجميع ينفي عنه صفة الطرف، حتى مع زميلاته في القسم غير المحجبات "كان يدعوهن للحجاب" وسبق أن "أخذ خمارا من عند أمه ليهديه لفتاة أبدت ليونة في ارتداء الحجاب". ومن خلال إلحاحنا لمعرفة الظروف التي اختفى فيها هذا الطفل، الذي حمّل لقبا أكثر من سنه وجسده الصغير، أكدت لنا الوالدة التي تحفظت إلى ابعد الحدود في الحديث للصحافة، أن ولا مؤشر كان يدل على انتهاج ابنها هذا النهج ولا سيكون له هذا المصير "في الليلة ما قبل كان منشغل بدراسته وأتم وقتها بحثا طلبته منه أستاذته" وطلبت من أحد إخوته إحضار ذلك البحث الذي كلفه قرابة 100 دج في محل "السيبار كافي" أين اعتاد التلاميذ إمضاء وقت مهم بسبب اشتراط الأساتذة معلومات من الانترنت، وعندما احضر الأخ البحث لاحظنا انه متعلق بالبيئة وكان آخر ما انجر "أبو مصعب" من دروسه هو ملوثات البيئة... والدة الصبي الذي شارك في العملية الانتحارية تكاد تجن وهي تقارن صفات ابنها الذي تعرفه وربته ببشاعة المهمة التي كلف بها وهي تبكي وتنوح "قولوا لي إن كان صحيحا كان يريد أن يقفز من الشاحنة والآخر الذي كان أمامه شده إلى مصيره الأسود، ابني بريء ولم يكن ينوي إيذاء احد"..وكأنها تريد أن تثبت أن هناك خللا في المعادلة ليرتاح ضميرها قبل أن تنطفئ جمرة فؤادها مؤكدة أن ابنها "كان يريد الفرار" من هناك لأنه لم يحتمل، فهو بالكاد أصبح في سن التكليف شرعا وقد كلف بعميلة انتحارية بشعة قبل حتى أن يبلغ الأهلية القانونية فهو لا يزال طفلا يدرس بالنسبة لوالديه..