مصطفى فرحات neoreporter@hotmail.com السيارات المفخخة التي انفجرت في قلب العاصمة الجزائرية حصدت أرواح أبرياء وقذفت في قلوب »المؤمنين« الرعب، وأكدت للرأي العام، مرة أخرى، أن الأبرياء والمدنيين هم الوقود الأمثل للمأساة، حيث تتحول أشلاؤهم المتناثرة إلى قائمة تحوي أسماء ضحايا، رغم أن تلك الحروف التي تُنقش بها أسماؤهم تنطوي على مخزن هائل من معاني الحياة التي توقفت، فجأة، بالنسبة إليهم، وانتشلت البسمة من قلوب أسرهم وأبنائهم ووالديهم. وفي كل مرة، وبعد كل انفجار، يأتي التأكيد على ضرورة الالتزام بميثاق السلم والمصالحة، لأنه خيار احتضنه الشعب وساندته الإرادة السياسية، وشهد الجميع بداية انفراج المحنة عندما اختارت مجموعات إرهابية وضع السلاح والانخراط في صفوف »الجماعة«، ونبذ العنف والفرقة، وكذا لأن الجميع يشير إلى أن أول سطر حوته رسالة الانتحاريين هو تقويض مسار المصالحة ورفضه وتشكيك دعاته بجدوى قناعاتهم ومبادئهم من أجل حقن دماء الجزائريين. لكنّ المثير للانتباه هو أن مسار المصالحة الذي تخطّى عقبات كثيرة حتى برز للوجود يحتاج لأكثر من مجرد إرادة سياسية وقناعة شعبية، لأن المسار توقف أو تعطل بمجرد بدايته، مع اختلاف المتتبعين لسبب هذا »العطل الفني«، ألأن المصالحة قاصرة في نفسها، ولا يمكن لها أن تجاوز الخط الذي توقفت عنده؟ أم لأن بعض أطراف المعادلة أمسكوا عقالها ورفضوا إطلاق العنان لها؟ أم لأن »الإرادة« السياسية اصطدمت بحاجز »الإدارة«، فأدى تعاكس القوى وتساويها إلى السكون والركود، كما تؤكده القاعدة الفيزيائية؟ أم لأن الدولة تورطت في هذا المسعى، ولم تجد حيلة للتملص منه فآثرت »تجميد« المسعى، رغم تذمّر التائبين وتخوف المترددين؟ إن القراءات تختلف بين فئة وأخرى، لكن النتيجة المتفق عليها هي أن المصالحة لم تستكمل بعدُ أدواتها، وأنها لا تزال »مُعطلة«، لا يمكن أن تعود أدراجها للوراء، ولا يمكنها أن تمضي قُدُما للأمام، رغم أن جميع الأطراف تُبدي نواياها الحسنة وتكشف عن رغبتها في نجاحها، وتعلن دعمها الظاهر والخفي لها. إن ميثاق السلم والمصالحة الوطنية مازال »أعرج« ويحتاج إلى كثير من التفعيل والسعي الجدي والميداني لاحتواء المأساة وإخماد لهيب الفتنة، ولئن كان التحدي الأولي يكمن في استصدار قانون وبعث هذا المشروع إلى الوجود، فإنه بعد سنوات من احتضان الشعب له ينبغي أن يصبح التحدي الحقيقي هو الدفع بآليات المصالحة وتفعيلها بما يعزز قناعة المترددين ويحسم شك المُتشككين، ويُخرس ألسنة الرافضين، وليس اجترار مبادئ هلامية لا تجد لها صدى في الواقع، لاسيما بعدما حدث وأن أعيد نبش بعض ملفات المستفيدين من ميثاق السلم والمصالحة وتم إحالتهم على القضاء، وهو إجراء استنكره فاروق قسنطيني واعتبره غير شرعي ولا مؤسس. لقد تحدثنا كثيرا عن ميثاق يساهم في وقف نزيف دماء الجزائريين ويعيد البسمة إلى شفاههم والأمل إلى قلوبهم، وقلنا حينها إن الميثاق، وإن كان أعرج، إلا أنه أفضل من فتنة لا تقوم على ساق. لكن الواقع اليوم بعد هذه السنوات تغير، وتطور، وينبغي أن تتغير رؤيتنا للأمور وتتطور تبعا لذلك، وعلينا أن لا نقنع اليوم بمصالحة »عرجاء«، وإنما بمصالحة شاملة عادلة، مادام أن الجميع يُقرّ ويعترف أنها المخرج الوحيد من هذه الأزمة التي لم تجد الجزائر فيها بارقة أمل إلا وأطفأتها عواصف الفتن الهوجاء. لا يمكن للجزائريين أن يبقوا ضحية القنابل الموقوتة ولا القنابل الانتحارية، وآن الأوان لكي يُغير الرعب معسكره، لكن تغيير معسكر الرعب الذي ننادي به لا يعني تبني سياسة الاستئصاليين الذين قسموا فئات الشعب الجزائري، وأخذوا الجار بجرم جاره، وحاولوا القضاء على مظاهر حضارتنا العربية الإسلامية بسياسة الخلط المتعمد بين الإسلام والإرهاب، وإنما نعني بذلك أن يزول الرعب من الجزائر ويرحل عنها إلى غير رجعة، لأن الجزائر كلها معسكر واحد، مهما اختلفت القناعات الشخصية والفكرية والأيديولوجية، ولأن تجارب التاريخ والحاضر تعلمنا أن خطر التفرق والتشرذم أعظم من خطر الاختلاف في الأفكار والقناعات، ولهذا لانزال نحلم بدولة جزائرية قوية تنال فيها المؤسسات حقها وحظها من التسيير والإشراف، فلا يعلو مزاج فوق أمزجة، ولا تتخذ القرارات المصيرية في ساعة غضب أو ضعف، أو لمجرد رد فعل فقط. لا يمكن للجزائر أن تعود إلى سنوات الأزمة وتصحو على وقع انفجار وتنام على هول كارثة، والشعب المعتز بتراثه وحضارته وإسلامه يعلم أن ما يعانيه اليوم ليس له صلة بقيم الإسلام ولا من روحه وجوهره، وله سند قوي من النصوص الشرعية المتواترة، وفتاوى العلماء، قديمهم وحديثهم على السواء، ومقاصد الشريعة الغرّاء، والمنطق الصائب والرأي الحكيم. وكما أننا لا نقبل بأن يُنسب العدوان والإرهاب إلى الإسلام، فإننا لا نقبل بأن يُتخذ شعار »مكافحة الإرهاب« ذريعة للعب على حبل الطائفية أو العصبية أو المذهبية، للتفريق بين المؤمنين أبناء البلد الواحد، أو لمحاربة الروح الإسلامية المتجذرة في أعماق الجزائريين، وشبح العراق خير دليل يقضّ المضاجع ويسرق النوم من الجفون، ونحن نقول هذا لكي لا تبنى سياساتنا وتصرفاتنا على ردود الأفعال: فلا نرفض المصالحة ولا نبارك الإرهاب، ولن نحارب الإسلام وقيمه وتراثه الأصيل.