محمد الهادي الحسني من أهم كتب الأدب العربي كتابان قيّمان لعلَمين من أعلام لغتنا العربية البديعة، وأول هذين الكتابين هو »المُفَضّلِيّات« نسبة إلى المفضل بن محمد الضّبّي (ت 175ه / 786 م؟)، وثانيهما هو »الأصمعيّات« نسبة إلى أبي سعيد عبد المالك الأصمعي (ت 212 ه / 828 م). وقد ضم هذان الكتابان أحسن ما جادت به قرائح الشعراء العرب مبنى ومعنى. لقد نويت - اقتداء بالمفضل والأصمعي - أن أكتب إن شاء الله كتابا اخترت له عنوانا هو »الكُوشْنيرِيّات« وأستسمح القارئ الكريم على هذا العنوان غير الجميل، الذي يستبشعه البيان العربي البديع، ولا يستسيغه الذوق العربي الرفيع، وتستثقله الأذن العربية المرهفة. لقد نسب المفضل والأصمعي كتابيهما إلى نفسيهما، أما أنا فقد نسبت الكتاب المزمع تأليفه إلى كائن يسمى »برنار كوشنير« الذي يصح أن يقال فيه ما قال الشاعر الأندلسي أبو بكر اليَكْني في أحد الأشخاص: أعد الوضوء إذا نطقت به واحفظ ثيابك إن مررت به متذكرا من قبل أن تنسى فالظل منه ينجس الشمس وإذا كان المفضل والأصمعي قد جمعا في كتابيهما ما جزُل مبناه، وفحُل معناه، فإني سأجمع في كتابي ما سفُل مبناه، وهزُل معناه من كلام هذا الكوشنير. وإذا كان المفضل والأصمعي قد جمعا ما جمعاه ليقتدي الناس به، وينسجوا على منواله لما له من حلاوة، وما عليه من طلاوة، فإن هدفي مما سأجمعه من كلام سخيف وقول رقيع هو أن يتفاداه الناس في أحاديثهم، ويجتنبوه في كلامهم، لأنه يهوي بصاحبه إلى أسفل سافلين، ويجعله سُخْرة وهُزأة، ولهذا فلا مجال للمقارنة بين »المفضليات« و»الأصمعيات« وبين »الكوشنيريات« فذانك - لما تضمناه- في الثّريّا، وهذا لما احتواه تحت الثرى، و»لكل عود عصارة« كما يقول العرب في أمثالهم السائرة. إن الأمر الذي جعلني أفكر في تأليف هذا الكتاب هو ما تفوّه به هذا الكوشنير في يوم 4 - 12 - 2007 في أثناء وجوده في الجزائر رفقة سارْكوزِه. فبماذا تفوه هذا الكوشنير؟ سئل هذا الكوشنير عن موقفه من إصرار الأغلبية الساحقة من الجزائريين الأصلاء على حقهم في اعتذار فرنسا لهم عما ارتكبته في حقهم من جرائم، وما اقترفته في وطنهم من جرائر، فأجاب في سخرية »سامطة« وعنجهية فارغة: »نعتذر لمن؟ وعن ماذا؟«، وعندما سئل عن السيد محمد الشريف عباس، أخذته الصيحة، وتخبّط كأن الشيطان مسه، وهذى قائلا: »من هو السيد عباس؟« ثم نفخ فيه أخرى، فقال »لا أريد مجرد النّطق باسمه« (جريدة الخبر في 5 / 12 / 2007 ص3). لقد ذكّرني جواب هذا الكوشنير بقول الشاعر العربي: ربِّ، ما أبين التباين فيه منزل عامر وعقل خراب فمظهر هذا الكوشنير يدل - رغم اشتراكيته السابقة - على رُفَهنيّة العيش، ولكن جوابه يدل على أنه »بلقع وصلقع« كما قال العرب. لو لم يكن هذا الكوشنير »بلقعا صلقعا« لما رد بهذا الجواب الخالي من اللباب، مما يدل على جهل مركب في قائله فظيع، وتجاهل في صاحبه شنيع، فالفظاعة تتمثل في جهله بما اقترفه أسلافه من موبقات في الجزائر، والشناعة تتجسد في تجاهله لشعب أصيل نبيل استطعمتْه فرنسا في أيام مسغبتها فأطعمها من جوع، واستصرخته في لحظات هلعها فنصرها وآمنها من خوف، ولكنها لما تبدّلت أحوالها قابلت ذلك الإحسان كله بما يخجل عديم المروءة من ذكره فضلا عن فعله، فإن جهل كوشنير هذا كله فهو - إذا- ممن عناهم المفكر الروماني شيشرون (ت 43 ق. م) بقوله: "إن من يجهل التاريخ سيبقى طفلا أبد الدهر"، وممّن عناهم الشاعر العربي في قوله: شرّ الجهالة ماكانت على كبر تسود الشيب مثل الحبر في الورق ولذلك فأنا أدعو العرب أن يجددوا بعض أمثالهم، فبدلا من أن يقولوا: "أجهل من عقرب" يقولون "أجهل من كشونير"، وسأستسمح لهم الغَيارى على اللغة العربية في خلطهم هنا بين المليح والقبيح. إن جريمة واحدة من جرائم فرنسا في الجزائر - وهي لاتُحصى ولا تُستقصى- تُوجب على فرنسا الاعتذار، ليس للجزائر فقط، ولكن للإنسانية كلها، وتوجب عليها التواري من المنتديات العالمية، والمؤتمرات الدولية من سُوء ما عملت، هذا إن بقيت فيها ذرة من الآدمية. إن الإجرام دركات، وإن المجرمين أنواع، وقد قرأ الناس وسمعوا كثيرا عن أصناف الإجرام وأنواع المجرمين فما وجدوا إجراما أشنع من الإجرام الفرنسي، وما علموا عن مجرمين أخس وأبشع من المجرمين الفرنسيين، حتى تحولت بسبب ذلك كله هذه الجنة المسماة الجزائر إلى »جهنم« لا يموت فيها الجزائريون فيستريحون، ولا يحيون، ولو كحياة البهائم الرُّتَّع، »ولا يبقى للجزائري، وهو في بيته وأرضه، وفي بلد مزدهر أبعد حدود الازدهار إلا أن يموت جوعا (1)«، وهذا ما جعل أحد الفرنسيين يقول في صحوة ضمير: »إننا قذرون (2)«. لقد ملأت فرنسا الدنيا بسبب أيام معدودات قضتها تحت الجزمة الألمانية، ووصفت الألمان بأقبح الصفات وأشنع النعوت، ولكن أحد الجنود الفرنسيين في الجزائر قارن بين الأيام التي عاشتها فرنسا تحت الاحتلال الألماني - وهي قليلة - وبين ما شاهده هو في الجزائر في أيام قليلة، فانتهى إلى نتيجة هي: "إن الألمان بأسالبيهم كانوا أطفالا صغارا بالنسبة إلينا (3)". إن تفرد فرنسا في الإجرام جعلها لا تكتفي فيه بمن فوق الأرض الجزائرية من بشر، بل دفعها إلى مد يدها إلى من قضى نحبه وووري الثرى، فنبشت القبور، وأخرجت العظام، وشحنتها في سفن إلى فرنسا (4) فهل هناك أبشع من هذا يا كشونير؟ لقد كان فيلسوفكم رينان يقول: "ليس القلب ينقصنا، بل العقل (5)"، ولكن بعض ما عرفته عن أعمال الفرنسيين في الجزائر - وما أعلم إلا النزر اليسير- يجعلني أرد على فيلسوفكم قائلا: "بل ينقصكم القلب والعقل"، لأن من يملك قلبا حيا وعقلا سليما لا تسوّل له نفسه أن يفكر - مجرد التفكير- في مدّ يده إلى أموات. اعتذري يا فرنسا أو لا تعتذري، قد عرفنا ظاهرك وباطنك حتى ما نُسائل أحدا عنك، ولن نستنطق فيك السطور وما روتْ، ولن نستنبىء عنك الصدور وما حوت، فأعمالك في الجزائر لا تحتاج إلى استنطاق ولا إلى استنباء، فأطفالنا ما إن يبلغوا الفطام حتى يعلموا علم اليقين أنك "منبع شقائنا، والصفحة العابسة في وجوهنا (6)". ولهذا سيبقى كل جزائري أصيل غير دخيل يردد في خلواته وجلواته ورد الشيخ عبد الحكيم بن سماية وهو: "يلعن.. فرنسا" ويتقرّب إلى الله زلفى بقول المجاهد محمد تقي الدين الهلالي: أعادي فرنسا ما حَييتُ فإن أمُتْ فأوصي أحبائي يعادونها بعدي وقالوا: فرنسا منبع العلم والسّنا وحرية الأقوام والعدل والرشد وقائل هذا القول يُلعن في السما ويُلعن في تميم ويُلعن في نجد وأختم كلمتي هذه بهمسة إلى الأخ المجاهد محمد الشريف عباس، فأقول له: هنيئا لك على تجاهل كُوشنير لك، وعدم طاقته ذكر اسمك، وأعجل لك البشرى بأن جهادك صادق، وأنك لست مجاهدا "تايوانا" ولهذا جعل الله - عز وجل- لاسمك معقبات يحفوظنه من أن ينطلق به لسان ذلك الكائن، وليكن شعارك قول جدك الشاعر العربي: ولقد أمرُّ على اللئيم يسبني غضبان ممتلئا علي إِهابَه فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني إني، وحقِّك، سخطه يرضيني لقد تأمل أحد الألمان في آثار الوجود الفرنسي في الجزائر بعدما زارها سهلا وجبلا، وبادية وحاضرة، فلخص ذلك الوجود في قوله: »يبدو أن في الجزائر قانونا للضرورة يقضي بأن يختفي كل ما هو جميل بأسرع ما يمكن (7)«. وتلك نعمة تمن بها فرنسا علينا. الهوامش (1) جان بول سارتر: عارنا في الجزائر ص20 (2) المرجع نفسه ص 38 (3) المرجع نفسه ص70 (4) أنظر شهادة فرنسية عن ذلك في كتاب »المرآة« لحمدان خوجة، تعريب: محمد بن عبد الكريم (5) ريمون آرون: الاستقلال للجزائر ص 64 (6) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ج 2 ص 466 (7) هاينْريش فون مالتسن: ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا ج1 ص 29