بقلم: عبد العالي رزاقي لا أتصور أن التغيير في الجزائر يكون عبر تغيير الدستور لتجديد العهدة للرئيس أو الإبقاء على الدستور، وإنما يكون عبر تغيير اللغة المستخدمة في الخطاب الجزائري، والتغيير الجوهري يبدأ من البلدية حتى تصبح في خدمة المواطن لا أن يصبح المواطن في خدمة مسييرها. وأعتقد أن وضع دليل لكل بلدية يضم أسماء مسييرها والتصريح بأملاكهم وأملاك البلدية، ومداخليها، ومشاريعها والمنفذين لها، وأسماء الشوارع والمحلات وأصحابها، مع إحصائية للسكان، والقوانين ذات العلاقة بهم، سيكون مفيدا للجميع. يخيل لي أن توفر 1541 دليل لبلديات القطر الجزائري يسمح بمعرفة ما يجري في البلاد، والتنافس يكون بين البلديات داخل الولاية. كما أنه يمكن لوزارة الداخلية أن تضع دليلا للمنظمات والتنظيمات والجمعيات والأحزاب والقوانين المتعلقة بها، يوفر للمواطن التفريق بين ما هو سياسي وما هو ثقافي أو اجتماعي أو اقتصادي. ويفترض أن يكون لكل وزارة مرشد خاص بها يمكّن المواطن من معرفة إمكانياتها وإطاراتها، وإذا أجبرت الأحزاب والجمعيات الوطنية على وضع مرشد بنصوصها ووثائقها وأسماء قياداتها ووظائفهم وأملاكهم، ربما نكون قد وضعنا أصابعنا على جوهر المشكلة في الجزائر وهو وضع حد نهائي لعدم الشفافية والاستغلال. إن أولى شروط الأمن بمفهومه العام الواسع من الأمن الغذائي مرورا بأمن الأشخاص والأملاك، وانتهاء بأمن الدولة هو توفير المعلومات للمواطن على جميع المستويات. سلطة الأمن أم أمن السلطة؟ عندما تقدم موظفون سامون إلى رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش بطلب وضع حماية لهم، امتنع عن ذلك، لأن أمن المواطن يعني أمن المسؤول وإذا فكر المسؤول في حماية نفسه فإنه ينسى حماية أمن المواطن. وأذكر أن بعض المسؤولين في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، أغلقوا طرقا عمومية تمر أمام »فيلاتهم أو قصورهم«، وهناك من وضعوا حماية خاصة لهم ولعائلاتهم، وفي مقدمتهم المرحوم قاصدي مرباح. واليوم يتكرر السيناريو نفسه مع وزراء في حكومة عبد العزيز بلخادم، وتستمر مظاهر »اللاأمن« أمام المؤسسات الأمنية وبعض الوزارات، بل إن بعض مؤسسات القطاع الخاص تجاوزت مظاهر »اللأمن« الخيال، وكأن الجزائر في حال حرب أهلية. يعتقد البعض بأن وضع الأمن حواجز أمنية وإسمنت مسلح، ومنع المواطن من الاقتراب منه، هو مجرد إجراءات احترازية، وهو اعتقاد خاطئ، لأن وجود الأمن هو لحماية المواطن وليس لحماية نفسه أو السلطة التي تقف وراءه. لقد وصل الاستهتار بهذه الظاهرة »اللاأمنية« حدا دفع بأحد ولاة الغرب إلى وضع أمن ولايته لحمايته أثناء تنقلاته بين الولايات المحيطة بولايته، بحيث يخيّل للسكان وكأن هناك زيارة لرئيس الدولة لولايتهم. صحيح أن مدير الأمن العام، علي تونسي، تحدث عن تجاوزات، ليس هذا مقام الحديث عنها، وإنما هناك ما هو أهم من الأمن وهو الثقافة الأمنية، وأقصد بها: هل الأمن يفرق بين النائب وعضو مجلس الأمة والوزراء ونواب القضاء، وبين الوظائف الأخرى. يفترض أن تقدم دروس حول كيفية تعامل الشرطي في المرور مع أعضاء المؤسسات الدستورية الثلاثة: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية والسلطة القضائية. ويفترض أن تدرس أبجديات التعامل مع المواطن أبجديات السلوك أثناء أداء المهمة، فالشرطي عندما يدخن أو يتحدث بالهاتف النقال، أو يصرخ أو غيرها فهذا دليل على وجود غياب للرقابة. والشرطي الذي لا يؤدي التحية لمن يوقفه ويقدم له أسباب توقيفه قبل طلب الأوراق منه هو لا يؤدي خدمة عمومية، وإنما يتجاوز حدود القانون. والشرطي الذي يقوم بحراسة السفارة وفي الوقت نفسه يراقب أوراق أصحاب السيارات أو يقيم حاجزا أمنيا أمام السفارة، هو شرطي ذو أكثر من وظيفة. إن تحديد مهام كل فئة من أسلاك الأمن، بالرغم من أنها محددة، فإنها تحتاج إلى ثقافة تعكسها، وهذه الثقافة أشك في وجودها وأتساءل: أين هو الاتصال الجواري لدى الشرطة؟ ربما يقول لي البعض: إذا كان المواطن لا يحترم الشرطي فكيف للشرطي أن يحترم المواطن؟ أجيب أن الشرطي الذي لا يقتنع بأنه في خدمة المواطن، وإنه مطالب ب »إعطاء الدرس« لمن يخطئ في حقه بتنبيهه إلى الأخطاء وليس إلى معاقبته أو سحب أوراقه أو التعسف في استخدام سلطته الأمنية هو ذلك »الشرطي المثقف«. فسلاح الشرطة هو ألسنتهم وليست مسدساتهم، وحتى بعد الأعمال الإرهابية، على الشرطة أن تحسن توظيف رد الفعل، يقول أحد خبراء البحث الاستراتيجي في الإرهاب، وهو الكاتب فرنسوا هيزبورع: »إن الأفعال الإرهابية هي أفعال اتصال ترمي دائما إلى زرع الذعر والتأثير في سلوك السكان، فكل خطأ في الاتصال عقب العملية مباشرة يساهم في مزيد من زعزعة الاستقرار«. إذا لم يقتنع المواطن بأن الشرطة في خدمته وليست في خدمة المسؤول عليه، فإن الأمن لن يتحقق، ولهذا على الأمن الوطني أن ينفتح على خريجي الجامعات، ويلغي »مظاهر اللاأمن« التي تكاد تكون من خصائص المؤسسات الجزائرية فقط. ليس عيبا أن يخطئ المواطن في حق الشرطي، وإنما العيب أن يخطئ الشرطي في حق المواطن، لأن ثقافة الشرطة يفترض أن تكون أعلى من ثقافة المواطن، لأنه يمثل السلطة وهو خليتها الأولى التي يتعامل معها فهو والبلدية وجهان لعملة واحدة وهي نظام الحكم في البلد، لأنهما يؤديان وظيفة واحدة وهي تسهيل الخدمات العمومية للمواطن. فراغ بين دولتين؟ هل وضع حراسة أمنية على رؤساء الأحزاب والوزراء هو دليل على أنهم في خدمة الشعب أم السلطة؟ وهل استمرار وجود »إقامات« للموظفين السامين في مناطق محروسة مثل »نادي الصنوبر وموريتي« هو إجراء احترازي أم مجرد فصل بين الشعب والمسؤول؟إذا كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يتجنب الإقامة في قصور الجمهورية، ويقيم في بيته، في عمارة، بأحد أعالي العاصمة، بينما بقية الموظفين يقيمون في غير بيوتهم فهل إن الرئيس يريد أن يقول إنه من الشعب وأن »سلطته« لا تقتدي به؟ أعتقد بأن الجزائر، في حاجة ماسة إلى رجال دولة يتخذون القرارات ويتحملون ما يترتب عنها سلبا أو إيجابا. وهذا لا يتأتّى إلا باحترام السلطة للدستور والقوانين. فالدستور يسمي الوزير الأول ب (رئيس حكومة) في المادة 85 منه، ولكن رئيس الحكومة يسمي نفسه »منسقا للحكومة، ورئيس حكومة أسبق سمى نفس »رجل المهمات الصعبة«، وآخر سمّى نفسه وحكومته ب »التقشف« وثالث سمى نفسه ب »صاحب المهمات القذرة« وهكذا، كل رئيس حكومة يطلق على نفسه اسما غير رئيس حكومة، وهو ما ذكّرني بمقولة الكاتب الشهيد غسان كنفاني »الوطنية صارت وجهة نظر«، وقد تحققت مقولته في عهد حكومتي »حكومتي السلطة الفلسطينية وسلطة حماس« اللتين تتقاتلان على »سلطة افتراضية« في دولة وهمية. ويبدو لي أن التخوف الحقيقي اليوم هو في أن تتحول الخيانة إلى و جهة نظر أو الجبن إلى حكمة والشجاعة إلى تهور، على حد تعبير صاحب كتاب »اغتيال ثورة« الأخضر بورقعة، ونردد ما قاله شاعر فلسطيني في الأربعينيات: »لعنة الله على كل العرب حسب المناسب والرتب« وإذا صار الجور فضيلة، والكبرياء مذلة، والخوف مواطنة، فمن حقنا أن نعود إلى القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، ونتوقف عند حكيم الصين العظيم كونفوشيوس، فهو أول من أدرك »هذا الوضع الجزائري«، وهو عدم توافق الممارسة مع آداب المجتمع. وقد وجه له ذات يوم سؤال: »ما هو أول شيء تقوم به إذا ما حكمت البلاد« فأجاب: »بالتأكيد سوف أقوم بتصحيح اللغة«، وأوضح بأن »اللغة السائدة ليست صائبة، لأن ما يقال عادة لا يحمل المعنى المقصود. وإذا كان ما يقال لا يحمل المعنى المقصود، فإننا لا نستطيع القيام بما ينبغي أن نقوم به. وإذا لم نفعل الشيء المطلوب فإن الأخلاق والفنون سوف تفسد أو تتلف. وإذا فسدت الأخلاق والفنون فإن العدالة سوف تضل، وإذا ضلت العدالة فإن الناس سوف يقفون في حالة من الخلط أو التداخل، بدون حول ولا قوة، وحينئذ لن يكون هناك تحكم فيما يقال أو يمارس«. ألا ينسحب هذا الكلام على الواقع الجزائري المعيش؟ ولماذا يصف بعض الساسة في المغرب وتونس الجزائر ب »نقطة الفراغ التي تربط بين الدولتين؟«. أزعم أن الحديث عن العهدة الثالثة وتغيير الدستور يدخل ضمن تكريس »سياسة أمن اللاأمن«، فالجزائر في حاجة إلى احترام الدستور والقوانين، ومادام العمل بالدستور متجاوزا ميدانيا فلا أعتقد أن تغيير الدستور أو تجديد العهدة سيغير من الوضع العام في شيء. ما أستطيع أن أقوله دون تحفظ أن البلاد تقترب من »النكة المغربية التونسية«، وعلينا أن نفكر بأن وصول البرميل إلى 100 دولار لم يغير من اقتصادنا فهل يغيره من امتهنوا »المساندة« للأشخاص وليس البرامج السياسية؟