الفتنة الكبرى الأولى التي ابتلي بها المسلمون أطلت برأسها بدءا من العام السادس من خلافة عثمان رضي الله عنه، أي بعد قرابة ثمانية عشر سنة من وفاة رسول الرحمة صلوات الله عليه وسلامه، وهي بلا ريب فتنة مركبة ومعقدة، ليس من السهل الاقتراب منها لوجود كثير من المحاذير والمعوقات، التي منعت وتمنع الباحثين من الولوج إلى ثناياها وهم مطمئنون، آمنون من الزلل ومن الوقوع في الخطيئة، لأسباب كثيرة قد يحسن بنا تحريرها قبل التقدم في عرض مختصر للوقائع، وما يلحقها من المواقف المروية عن أبطالها، وعن طائفة من الذين حضروها كشهود عيان من الصحابة والتابعين. أول عقبة حقيقية توجب التريث في تناول الحدث، كثرة الروايات وتراكمها مع مرور الزمن دون أن تخضع لما خضعت له روايات الحديث الشريف من تمحيص، وجرح وتعديل، بأدوات منهجية علمية لم تخضع له أي رواية تاريخية قبل وبعد ظهور الإسلام، وسوف يصادفك في ذلك الكم الهائل من الروايات الشيء وضده عند نفس الراوي، وفي نفس المتن التاريخي الناقل لها، خاصة حين يتعلق الأمر بالمواقف المعلنة لصحابة رسول الله، ولمن كان منهم له دور من قريب أو من بعيد، سلبا أو إيجابا. ولعل أخطر ما يمنع حتى اليوم تسليط الضوء بقدر من الموضوعية والحياد على وقائع الفتنة الكبرى، هو حالة تشتيت الذهن وهو يلهث وسط سيل من الروايات، وقد اجتزأت من سياقها، وسيقت ضمن سياقات هي أقرب إلى ما يوصف اليوم بالبروبغاندا والأجيت بروب، قد سخرتها وغذتها لاحقا الفرق المتناحرة مذهبيا وعقائديا، كما سخرها من خارج المجموعة الإسلامية، من كان يريد في المقام الأول الطعن في صحابة رسول الله، ومن خلالهم التطاول على سيد المرسلين. العقبة الثانية هي بلا ريب كامنة للمؤرخ والباحث في صعوبة الفصل بين واجب الاحترام والتقدير لصحابة رسول الله، وقد مدحهم الله في الآية 29 من الفتح »مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا«. وبين حق المسلمين في التصدي لسلوكهم البشري، من حيث أنهم بشر مثلنا، معرضون للخطأ، لقوله صلى الله عليه وسلم: كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْر الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" حق متاح لكل مسلم، ما لم يقصد به الإساءة، أو يكون حالة من حالات البغض المبيت للصحابة، مع إضمار القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم,ولذا قال الإمام مالك رحمه الله واصفًا حال مبغضي الصحابة، ومبينًا معتقدهم: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك؛ فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين، وذلك أنه ما كان منهم رجل إلا ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويذبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، ويعينه على إظهار دين الله، وإعلاء كلمته، وتبليغ رسالاته وقت الحاجة، وهو حينئذٍ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته" وقد شكلت هذه العقبة حاجزا أمام الباحثين المسلمين فكان أكثرهم يخشى أن يقع في المحذور، فيعد في صف المبغضين لصحابة رسول الله، فتراه يتصدى بحذر لما بين يديه من الروايات التي تتعرض لأخطاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم وهم يجتهدون في حسن إدارة شأن المسلمين، ويتفلت من واجب الترجيح الروايات بالإكثار من الروايات المتعارضة المتناقضة.