تقف البشرية على منعرج تاريخي وخطير نظرا للتسارع الكمّي والكيفي لأحداث حاسمة تمرّ بها العديد من المناطق في العالم التي تشهد اضطرابات متفاوتة الخطورة؛ فيما تقف مناطق أخرى على فوّهة البركان مدهوشة لما يقع من حولها وهي لا تملك من أمرها شيئا إلا انتظار دورها من الاضطراب وغياب الأمن و انقلاب الموازين الداخلية، وما ذلك إلا لمجموعة العوامل الاقتصادية والجيوسياسية التي تمرّ بها البشرية اليوم وتجعل أغلب محاولات الالتفاف حولها عن طريق عناوين انتهت ظروف نشأتها ك"الشرعية الدولية" المنبثقة في الأساس من ميثاق الأممالمتحدة منذ نهايات ربعينات القرن الماضي ولا حتى محاولات بعث "النظّام العالمي الجديد" المعبّر عنه ب"مجموعة القوانين والقيم الكامنة التي تفسر حركة هذا النظام وسلوك القائمين وأولوياتهم واختياراتهم وتوقعاتهم" أو ما يزعمه دعاة هذا المصطلح من "تبسيط العلاقات وتجاوز العقد التاريخية والنفسية والنظر للعالم باعتباره وحدة متجانسة واحدة"، فمثل هذه التصوّرات والقراءات للعالم لم تعد معيار صحيحا فضلا عن أن يكون بديهيا لحفظ "السلام العالمي"، فمراكز القوى اليوم ليست كتلك التي هيّأت الظروف لنفسها بعد الحرب العالمية الثانية لبناء نظام مركزي عالمي يخدم مصالحها ويحفظ أمن الشعوب مع استمرارية "استنزافها" ثقافيا وإقصاديا، كما أنّ شعوب اليوم ليست بتلك التي تقبل الإغلاق على وعيها والحجر عليها بكلام أقرب للمثالية غير المتحققة منه إلى الواقعية التي تحفظ للنّاس كرامتهم قبل أمنهم. لقد شهد عالم القرن الواحد والعشرين تغيّرات جوهرية في العلاقات العالمية وفي توزيع القوى وبرزت خلاله قوى شرقية و أخرى أيضا غربية وأنتشر الوعي الجماعي عند قطاعات واسعة من الشعوب والأمم التي لم تعد تقبل بالحد الأدنى من حفظ مصالحها وسيادتها "التامة" على أوطانها بعيدا عن أي علاقات خارجية لا تراعي "المماثلة"ولا تضبط بحارس "المصلحة المشتركة"، إنّ شعوب القرن الواحد والعشرين لا يمكن في ظل التغيّرات التي ترقبها وتحمل عبأها أن تعيش منزوية عن تقدّمها الحضاري وتطلّعاتها مكرهة على السير وفق تصوّرات وتقريرات وضعت بصيغة "المغالبة" ولم تراع إلا "مصالح الكبار"، ومن تلك شعوب الشرق الأوسط التي تنظر إلى منطقتها "المشتعلة" كأحد أهم مناطق العالم الذي تنامى فيها تدخّل "الديناصورات" العالمية تحت يافطة "الشرعية الدولية" والحفاظ على "الأمن العالمي" وديمومة التبعية المطلقة ل"المركزية العالمية"، فشعوب الشرق الأوسط كغيرها من الشعوب ليست رقيقا مستعبدة حتى تستمرّ في العيش تحت رحمة "شرعية دولية" لم تشارك في رسم معالمها رغم مخزونها التاريخي والثقافي والاجتماعي الكبير كمّا وكيفا، ولقد أحسن رئيس الوزراء التركي سابقا –وهو الرئيس الحالي- رجب طيّب آردوغان عندما اقترح في لحظة يأس من وجود نيّة حقيقة لمجلس الأمن – ممثل الشرعية الدولية- للتدخل والحفاظ على أمن الشعب السوري وظهر جليا أنّه اختار الحفاظ على أمان منظومته ومركزيته ولو على حساب الدماء والأشلاء والنزيف الذي ما زال يدمّر البلاد الشامية ما جعل آردوغان يدعو إلى "إنشاء مجلس مواز لمجلس الأمن الدولي من أجل إفتكاك الكثير من الحقوق المهضومة للشعوب"، وهي كما نراها خطوة في الطريق الصحيح من أجل إرساء معالم نظام عالمي جديد يعيد للشرق الأوسط "المحترق" بالصراعات الإثنية والطائفية أمنها ويبعد عنها شبح الدخول في حرب "المائة سنة بين السنة والشيعة" التي تحدّث عنها الكثير من الخبراء وحذّروا من مخاطرها على المنطقة وأمنها ما يهدد بتفجيرها وإنهاء كيانها أصلا، وما هذا الصراع إلا وليد طبيعي وحتمي للتدخلات في المنطقة وعدم وجود ميزان واضح لتحديد علاقات هذه الدول بعضها ببعض بما يتوافق وثقافتها وتاريخها ويمنع مزيد انزلاق نحو العنف والدّمار. إنّ من الحق الفطري والجبلّي والشرعي والعرفي والعقلي لشعوب الشرق الأوسط ونخبها المثقفة أن تنتفض ضدّ البقاء تحت عباءة "الشرعية الدولية" دون وجود أي محاولات من دول "الهيمنة" العالمية للجلوس إلى طاولة حوار واحدة ومدارسة الموضوع دراسة معمّقة من أجل إدخال تعديلات عميقة على القوانين والمواثيق المسيرة لكل الأدوات والهيئات والمنظمات العالمية بما يعيد للشعوب "كرامتها" ويحقق تطلّعاتها. هي دعوة إلى النخب العاقلة في "الغرب" ولما لا تكون دعوة حتّى لبعض من يريد التغيير من محرّكي ومهندسي النّظام العالمي من أجل إيجاد طرق تغيير عالمي "سلس" فشبح صدام الحضارات قاب قوسين أو أدنى من النزول ضيفا غير مرحبا به عند الشعوب "ولات حين مناص".