دشّن الأستاذ الجامعي جمال مسرحي باكورة إنتاجاته الفكرية بكتاب في التاريخ القديم تحت عنوان "المقاومة النوميدية للاحتلال الروماني" من سيفاكس إلى تاكفاريناس، من 203 ق.م إلى 17 م، حيث يقع في 176 صفحة، وصادر عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، ENAG، وبدعم من وزارة الثقافة. ويتضمن الكتاب 4 فصول ومدخلا، حيث قدمه له الدكتور غانم محمد الصغير، أستاذ التاريخ القديم بجامعة قسنطينة وأحد أبرز مؤرخي التاريخ القديم بجامعة قسنطينة والمغرب العربي، وتناول المؤلف أصول الدولة النوميدية في شطريها الشرقي (الماسيل) والغربي (المازيسيل)، مشيرا أن ظهور الدولة النوميدية كان نهاية القرن الرابع قبل الميلاد من خلال تجمع قبائل الماسيل حول ضريح المدراسن شمالي الأوراس، وهي المرحلة التي أطلق عليها المؤلف مرحلة ظهور الدولة النوميدية في شكلها القبلي، ثم انتقلت تلك القبائل إلى الشمال لتظهر الدولة النوميدية في شكلها الملكي على يد أسلاف الملك ماسينيسان مثل والده غايا وقبله إيلماس وغيرهم وذلك بعد توفر شروط قيام الدولة يضيف الأستاذ جمال مسرحي، كما تناول الكتاب ظهور الدولة النوميدية الغربية على يد أسلاف العاهل النوميدي سيفاكس من خلال تحليل ودراسة بقايا أضرحة الأجدار التي تقع بالقرب من مدية سيقا الأثرية عاصمة المازيسيل، وتناول الأستاذ جمال مسرحي بشكل أكاديمي جريء قضية توحيد المملكة النوميدية سنة 204 قبل الميلاد على يد العاهل النوميدي سيفاكس، وذلك خلافا على ما دأبت عليه المدرسة التاريخية التقليدية التي استقت على ما يبدو فكرها من التوجه الكولونيالي الممجد للاحتلال الروماني.. ويحلل بشيء من التفصيل نتائج الحرب البونية الثانية (218-201ق.م) وانعكاساتها الوخيمة على الشمال الإفريقي، كما تناول أوضاع المملكة أثناء فترة حكم الملوك النوميديين من الملك سيفاكس الذي وحد المملكة ثم الملك ماسينيسان على اثر الحرب الرومانية القرطاجية الثانية والتحالفات الإقليمية التي صبغت تلك الفترة... ثم أشار إلى استقرار المملكة أثناء فترة حكم الملك مكوسن ابن ماسينيسان على اعتبار أنه حافظ على سياسة والده تجاه الرومان، والدور الكبير الذي لعبه الأمير يوغرطة لاستعادة سيادة الدولة على أقاليمها مما كلفه خوض حرب ضروس مع الرومان رغم انهزامه في النهاية سنه 105 قبل الميلاد إلا أنه أعطى المثل للأجيال و لقن الرومان دروسا في التضحية من أجل الوطن.. وأفرد الفصل الثاني من الكتاب لتحليل حرب يوغرطة ضد الرومان و مراحلها المختلفة بعد أن كان قد أوضح طبيعة الصراع القائم في تلك الفترة حول وراثة العرش النوميدي بعد وفاة مكوسن ابن ماسينيسان سنة 118 ق.م وخلفيات تبنيه لابن أخيه الأمير يوغرطه .. وبعد ذلك يحلل الكاتب انعكاسات حرب يوغرطة على المنطقة المغاربية والتطورات السياسية بعد هزيمة يوغرطة على إثر المؤامرة التي دبرها الملك الموريتاني (المغرب الأقصى حاليا) بوكوس أو بوخوس التي مكنت الرومان بقيادة القنصل سولا من إلقاء القبض على يوغرطة ونقله إلى روما أين لقي حتفه في سجن التوليانويم الرهيب... ممهدا لتناول مقاومة الملك يوبا الأول و تداعيات قيادة يوليوس قيصر للحرب في لإريقيا ضد القائد بومبيوس الذي تحالف معه الملك النوميدي يوبا الأول سنه 46 قبل الميلاد، وأفرد المؤلف الفصل الثالث من كتابه للترتيبات التي أقرها يوليوس قيصر في إفريقيا بعد هزيمة الملك يوبا الأول والتقسيمات التي استحدثها الرومان في المنطقة المغاربية و ردود الفعل المحلية التي تمثلت في الثورات التي نشبت في مختلف المناطق الجزائرية و التونسية الحالية .. وهنا تظهر وجهة نظر المؤلف حيث تعمد إبراز العنصرين الفاعلين معا الرومان و النوميديين ولم يكتف على ما كانت عليه الدراسات السابقة تبرز الفعل الروماني فقط .. فقد تناول الكاتب ثورات الجيتول في الجنوب النوميدي و شرقه ثم أبرز بالتفصيل انتفاضة القبائل الموزيلامية في الجنوب الشرقي النوميدي أي الأوراس و محيطه الكبير من الحضنة إلى شط الجريد تقريبا في تونس الحالية..وذلك بقيادة القائد الثائر تاكفاريناس بين سنتي 17 – 24 للميلاد مبرزا أسباب الثورة و مراحلها و نتائجها.. الفصل الرابع خصصه المؤلف للسياسة الرومانية في المنطقة و ذلك من خلال تتبع مد خطوط الليمس الروماني في القرنين الأول و الثالث في المناطق الداخلية النوميدية لاسيما الأوراس و التخوم الصحراوية وجلب الجيش الروماني للفرق المساعدة في الجيش خاصة من سوريا لمعرفة عناصرها بطبيعة الحرب في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية.. خاصة اللفيف التدمري الذي كانت له أعمال حربية واقتصادية واسعة في جنوب الأوراس. ويعد الأستاذ جمال مسرحي من خريجي جامعة قسنطينة في كل أطوار دراساته العليا، وهو من الجيل الجديد من الباحثين في التاريخ القديم عموما والمغاربي خصوصا، من القلائل الذين يحاولون دراسة التاريخ و تحليل أحداثه وإشكالياته أفقيا، معتمدا على تحليل المصادر المادية واللقى الأثرية و العمل على ربطها و تفكيك مبهماتها للوصول إلى ربط الصلة بينها و بين العنصر المحلي من السكان الأصليين في الشمال الإفريقي القديم ، ومن ثمة نجده يعمل على إبراز السمات الحضارية للمنطقة المغاربية والدولة النوميدية خصوصا، ثم الجنوب النوميدي أي الكتلة الأوراسية على وجه التحديد. يعارض الأستاذ جمال مسرحي بشدة محاولة البعض ربط التاريخ المحلي القديم بالوافدين الأجانب على المنطقة المغاربية ومن ثمة عملهم على ربطه تارة بالرومان والبيزنطيين وتارة أخرى دمجه في سياق حاضرات البحر المتوسط ممهدين لوضعه تحت مظلة المدرسة الكولونيالية.