صورة لمعاناة المواطنين بغرداية لم نجد طيلة جولتنا الليلية ببعض الأحياء المنكوبة بغرداية، عائلات في العراء رغم وجود ما لا يقل عن 5 آلاف عائلة منكوبة وتضرر آلاف المنازل التي هوت بسبب الفيضان، وعلمنا لاحقا أن العديد من العائلات التي تملك دورا تتكون من عدة طوابق، استقبلت النساء والأطفال من المنكوبين ووفرت لهم اللباس والطعام وحتى الدواء، كما خصصت لهم غرفا للنوم والإقامة مؤقتا في انتظار تسوية وضعيتها، وكان عدم وجود خيم في الأحياء والشوارع لافتا لانتباه كل الزائرين لمنطقة منكوبة. * * الوديان تتحول الى كابوس وأطفال ينفرون من السباحة بعد الصدمة * * ورفض جميع أصحاب هذه المنازل الكشف عن هوياتهم وهم يتحدثون إلينا عن النكبة، مؤكدين أن ما قاموا به يندرج في إطار التضامن "وأجرنا على الله" ولا يريدون تشهيرا أو "دعاية إعلامية"، وقالوا إن مجموعة من الشباب المتطوعين هبوا منذ الساعات الأولى لفيضان الوادي في جميع أحياء غرداية لإجلاء المنكوبين. * قال محمد الذي التقيناه بشارع الشهداء بمحاذاة الوادي ببلدية حاج مسعود "تدخلنا بوسائلنا الخاصة والبدائية وركزنا على النساء والأطفال والمسنين العاجزين"، ليتم تحويل هؤلاء الى منازل المواطنين العالية التي لم تتضرر، وتم تقسيم المتطوعين الى فرق منهم شباب مكلفون بالتدخل والإنقاذ وآخرون بنقل الناجين الى المساكن التي تأويهم أو المستشفيات بالنسبة للحالات الحرجة، فيما كانت النساء في البيوت تتكفلن بالمنكوبين من النساء والأطفال الذين كانت ملابسهم مبللة ويعانون من صدمات نفسية، حيث تم توزيع عدد من الألبسة والأغطية. * * حراس الليل يعودون لتأمين مساكنهم وترقب الوضع * * وسجلنا خلال تنقلنا في الساعات الأولى للفيضان الى بعض الأحياء المنكوبة، عدم توفر الغاز الطبيعي في المنازل وأيضا التيار الكهربائي وانقطاع شبكة الاتصالات، لتلجأ العائلات في المساكن غير المتضررة الى استخدام الشموع والمصابيح التقليدية "الكانكي" لإنارة المكان، إضافة الى الطهي بواسطة قاوروات الغاز، وذهبت ربات بيوت الى عجن كميات كبيرة من "الكسرة" وتوزيعها على المنكوبين في ظل انعدام المخابز. * كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، البرد شديد ويبدو مشهد المدينة أكثر مأساة في الظلام ويثير الرعب في نفس الزائر، لم نجد أحدا في الخارج باستثناء رجال الإنقاذ من عناصر الحماية المدنية وأفراد الدرك ومتطوعين، وكان يسود الأزقة سكون رهيب ولا أثر إلا للدمار ورائحة الطين، لكن ولا عائلة في العراء، صادفنا بعض سيارات الشرطة والدرك التي كانت تقوم بدوريات في الأحياء لتأمين ممتلكات السكنات الفارغة التي هجرها سكانها وخلفوا وراءهم كل شيء لتتعرض للنهب والسرقة، بينما جندت مصالح الشرطة سيارات مجهزة بمصابيح ضخمة لإنارة بعض الأحياء والشوارع الرئيسية، خاصة على مستوى الطريق الوطني رقم 1 الرابط بين ورقلة وشمال البلاد، حيث وجدنا بعض الشاحنات المحملة بالإعانات وأخرى بالجرافات تتوافد على مقر الولاية. * التقينا أخيرا مجموعة من الشباب بحي حاج مسعود، كانوا ملتفين حول نار حطب، أحدهم كان يبدو مبللا ويضع على رأسه غطاء صوفيا وشاهدته يرتعش ليوضح أنه صاحب محل تجاري بالمحطة البرية لنقل المسافرين بغرداية غمرت السيول محله، ليقوم بتنظيفه وصرف المياه التي أتلفت كل ممتلكاته "الحمد لله الحديد يتخلف" قبل أن يتدخل رفيقه ليؤكد أنه عاش كابوسا حقيقيا تلك الليلة ولايزال منزله مغمورا بالسيول بسبب فيضان الطريق المؤدي الى مسكنه، حيث كان أفراد الحماية المدنية قد تدخلوا لإجلاء العائلات بواسطة زورق. * * إجلاء أطفال داخل صناديق الخضر والسيول كانت "مدوية" * * قال أحمد "لن أنسى ذلك اليوم، كانت الساعة تشير الى الساعة الخامسة والنصف، كنت أحضر لأداء الصلاة وزوجتي تحضر مائدة فطور العيد، وكان ابني الصغير قد استيقظ مبكرا على غير العادة مما دفع والدته الى نهره ومطالبته بالعودة الى سريره، لكني أوضحت لها أنه يبحث عن الحلويات قبل أن نفاجأ بصراخ أحد الجيران وهو يصرخ "فاض الواد .. فاض الواد"، ويوضح أحمد أنه ترددت معلومات باحتمال فيضان الوادي، لكننا لم نتوقع هذه الكارثة، ليضيف انه حاول الخروج، لكن منسوب المياه كان مرتفعا الى أكثر من 3 أمتار، ليتم وضع خطة بين أبناء الحي لإجلاء النساء والأطفال أولا، ونزعنا أبواب المنازل وكل الألواح وعجلات السيارات ووضعنا أطفالنا الذين كانوا لازالوا نياما في صناديق الخضر ونقلنا أسرنا الى الطريق الرئيسي، حيث وقفنا على حجم الكارثة "الحمد لله.. جات من عند ربي"... ويضيف جاره "أنا قمت بالسباحة في المياه القذرة لإنقاذ أطفالي وزوجتي ووالدتي العجوز.. أعتقد أني عاجز بعد اليوم عن السباحة التي كانت هوايتي.. انا فعلا مصدوم، وعن الوديان.. أعترف أني أتحاشى النظر إليها". * بحي ثنية الحد، التقينا شبابا يحرسون منازلهم بحي 5 جويلية ويراقبون الواد عن قرب بعد انهيار الطريق المعبد حديثا، اقتربنا منهم ليشيروا أنهم أصبحوا يترصدون الغيوم في السماء، واعترفوا أنهم يشعرون بالتوتر والخوف بمجرد تلبد السماء "لازلنا مهددين بالكارثة في حال سقوط أمطار ولو خفيفة.. انظري هناك، منسوب الوادي لم ينخفض كثيرا". وقال رفيقه "كنا نياما عندما سمعنا من مكبر المسجد تحذيرات للخروج من المنازل بسبب فيضان الوادي، ومن النافذة شاهدنا السيول... كان الماء يهدر وهو يهجم على البيوت.. نجونا مع عائلاتنا بعد أن قفزنا من أسطح المنازل المجاورة"، يصمت قبل أن يضيف "لكني شاهدت الأشخاص الذين رمتهم السيول وهم يتخبطون وبعدها شاهدنا جثثا زرقاء ومنها العارية، ومن بعيد تابعت انهيار السكنات المحاذية للوادي تتهاوى كأننا في فيلم أو رسوم متحركة... ربي يرحمهم". * * ناجون بفضل النخيل وملابس وحلويات العيد تلتهمها الأوحال * * و اعتقد رب عائلة منكوبة بحي "الغابة" أكثر الأحياء المنكوبة بغرداية، أننا من مكتب الإحصاء وهو يشاهد الكناش بحوزتنا، قبل أن يقول السيد قادي بابا سعيد "نحن هنا وسط الأمطاروالمياه، نعيش مثل الطيور في الأسطح والضفادع في المياه"، و يروي الشيخ أنه وجد صعوبة في صعود السلم بعد أن غمرت السيول الطابق الأرضي لمسكنه، وتنقل الى أعلى السطح وهو يشاهد المياه تغطي المنازل المجاورة وأتلفت الحقول وطفت المواشي فوقها، ويشير الى سقوط العديد من المنازل والأعمدة الكهربائية والأشجار وغمرت السيول مساكن المواطنين، خاصة الأقبية التي كانوا متواجدين بها، بعض الأقارب تنقلوا الى هنا لقضاء العيد مع عائلاتهم، كانوا محملين بالحلويات وملابس أطفالهم الجديدة... لكن كل شيء غمرته الأوحال"، ويصف لهول الكارثة بالقول "رأيت جاري يتسلق نخلة غمرتها المياه لمدة ساعات قبل وصول فرق الإنقاذ من المتطوعين... المياه غطت نصف النخلة... كان الأمر رهيبا".