عندما تريد زيارة الصحراء تساورك صور لبيئة قاحلة، حرارة مرتفعة وعزلة قاتلة، لن تخففها حلاوة "دقلةَ نور" ولا شايها الأصيل، أو حتى أجمل غروب في العالم من جبال "الاسكرم"، كان هذا سابقا.. لأنه اليوم وبمجرد أن تنزل بمطاراتها تغيب تلك الصور عن ذهنك، وستجد في استقبالك جيلا ثالثا قبل أن يولد الرابع.. حتى أنك لا تتخيل أن يخرج من ذلك اللباس التقليدي الصحراوي الجميل "أيفون" و"قلاكسي" يدون كل شيء يقال. نحن 10 نتصارع من أجل لقب ال49 اختيار السلطات لسنة 2015.. لم يكن تاريخا عاديا ل10 دوائر جنوبية اختارت الدولة ترقيتها إلى ولايات منتدبة، بعدما كان حلما يساور أبناءها لعقود . موعد فتح الباب لقاطنيها للتنافس على لقب الولاية الافتراضية 49، لتصبح حقيقة، فكان الاحتفال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن رفع ثلاث سنوات من تحدي التنمية، وتقريب الإدارة، خطاب يتم الترويج له يوميا، في بيئة لا يزال فيها امتلاك "حساب فايسبوك" وتدفق عال للنت نجاحا لأبناء المنطقة، الراغبين في لفت السلطات "إلكترونيا" وكي لا يتحجج المسؤولون بقطع 2000 كلم . ثلاث عينات من أصل عشر، حالفنا الحظ لزيارتها، وسمعنا على لسان كل من سألناه من الدائرة إلى الولاية المنتدبة ماذا تغير؟ الإجابة كانت "نريد أن نكون رقما.. فانتظرونا ولاية ". تقرت.. ملامح بدأت تظهر، يقول السكان الذين أضحت أناملهم تدون انشغالاتهم "رقميا" لتلتقطها أعين المسؤولين المحليين المتتبعة لكل صغيرة وكبيرة لفيسبوكيين، ومغردين من بيوتهم وفي الساحات والواحات.."لا مدارس هنا، الطريق غير معبد، لا يعقل أن يتنقل أولادنا آلاف الكيلومترات للدراسة.." يضيف السكان الذي أضحوا يضعون عشرات الصفحات تخص منطقتهم . زيارتنا الثانية ،عين قزام،.. فكرة واحدة كنا نحملها.. الوضع على الحدود متوتر.. وصلنا إلى مقر المقاطعة، كان في استقبالنا نسوة يرتدين النيلة وحناجرهن تطربنا بأغاني ترقية تحمل آهات المنطقة، وبجوارهن رجال بالزي التقليدي يمتطون الجمال . هنا التنمية فعلا غائبة، لكن لسان حال تلك الأرض يقول: "انتشلوني من العزلة".. ولأن تحدي أبناء المنطقة أكبر من الظروف الصعبة، فما لاحظناه هو النسوة والرجال الحاملون لهواتف تلتقط صورا، غير مصدقين أن الحكومة تطرق أبوابهم "إنها حقيقة وليس حلما: "فعلا الوزير هنا في عين قزام ". إحساس طبيعي، يقول الأعيان، فزيارة أي مسؤول لتلك المنطقة بمثابة انتشال من الغرق في الكثبان.. "نريد بدل حبات الرمل، بنايات ومساحات خضراء، ومحو صورة التهريب والهجرة غير الشرعية اللصيقة بمنطقتنا". حلّقنا على مدار ساعتين، لنصل إلى عين صالح.. شريط الأحداث عاد بنا إلى الاحتجاجات التي أخرجت عائلات لتبيت في العراء، لكن الثورة التكنولوجية التي "فجرها" المواطنون تحولت من "لا للغاز الصخري" إلى "نعم للتنمية". في دردشة، أكد بعض السكان الذين التقيناهم: "نطمح في عين صالح، ومنذ إعلانها ولاية منتدبة، لدفع وتيرة التنمية. عزاؤنا في ذلك التكنولوجيا، ويمكن القول إن الذهنيات هنا تغيرت، فلم يعد المواطن يتنقل إلى البلدية لينتظر رئيسها بالساعات، لأنه سيجد الباب موصدا، ولذا يكتفي بنقرة واحدة للتعبير عن انشغالاته". جمعية شمس للمحافظة على البيئة وترقية الطاقات المتجددة والتنمية المستدامة، واحدة من النماذج الناجحة في عين صالح، فشعارها، "لا تنمية بدون تكنولوجيا"، تطبيقات عديدة تضعها بين أيدي السكان كمثال فقط، تطبيق تضعه في صفحتها على الفايسبوك للتبليغ عن الخروقات البيئية، مستعينة برابط يسمى بالانجليزي "تراكر"، حيث يقوم بإحصاء وتصنيف للنوع والمكان والإدارة المسؤولة عن المشكلة، لتقوم الجمعية بزيارة المكان لأخذ صور معاينة المكان وتقييم الأخطار، على أن يتم الاتصال بالجهة المسؤولة عن الخرق لزيارة ميدانية للوقوف على المشكل وتختتم بمحضر أو مراسلة إبلاغ من تقدم بعرض المشكل أو عرض انشغاله على الإدارة. وفي ظل التسارع التكنولوجي تفكر الجمعية في التبليغ عن الخروقات البيئية باستخدام النقال بتطبيق Play store يتم تحميله على الموبايل، ويعطي الإمكانية للمبلغ أن يحدد إحداثيات مع أخذ صورة لمكان الخروقات ووضع خريطة للنقاط السوداء. وقوفنا على مدى مراهنة السكان على التكنولوجيات الحديثة، والحلم في الولاية، ولّدَ لدينا فضولا للقيام بجولة في الشبكة العنكبوتية.. فعلا ولايات افتراضية جدرانها عشرات الصفحات لجمعيات ومؤسسات ومجتمع مدني، يسكنها آلاف المعجبين ليسوا من المواطنين فقط، بل حتى مسؤولون محليون يتسللون وسط التعليقات، للرد على انشغالات السكان أو التوضيح، ولا تقتصر المشاركات على المشاكل، بل التعريف بالمناطق السياحية التي تزخر بها الصحراء.
عندما تكسر الإنترنت صمت الصحراء يؤكد السيناتور عن ولاية إليزي، عباس بوعمامة، أن التكنولوجيا كسرت سكون الصحراء، التي أضحت تتمتع بتغطية معتبرة، ينتظر تطويرها، موضحا أن المستثمرين كانوا يرفضون التوجه إلى الجنوب ويتخوفون من فشل مشاريعهم في ظل غياب "الرقمنة"، خاصة مؤسسات الإنجاز التي تقوم كل تعاملاتها على الانترنت. لكن اليوم -يقول بوعمامة- اختلف الأمر ولم يعد هذا المشكل مطروحا. يوافقه، محمد أخاموخ، أحد أعيان تمنراست، ليؤكد أن توجه الحكومة نحو رقمنة الإدارة سيساعد أبناء الجنوب كثيرا وينهي كابوس قطع آلاف الكيلومترات من أجل استخراج وثيقة.
من مملكة الورق.. إلى الحكومة الإلكترونية تدافع وزارة الداخلية عن نظرتها في عصرنة الإدارة وتزويدها بالتكنولوجيات الحديثة لتحسين الخدمات المقدمة للمواطن، لكي يكون له الدور الكبير في التنمية وخلق إدارة جزائرية رقمية متحررة من الأوراق. ويؤكد، عبد القادر هني، مدير العصرنة والتوثيق والأرشيف ل"الشروق" أن وزارة الداخلية، بصدد تصميم نظام معلوماتي يرتكز على التكنولوجيات الحديثة، مع تطوير التطبيقات التي ستسمح بحصول المواطن على المعطيات وإعادة توزيعها وفق جودة عالية من المستوى المركزي الذي يوجد فيه المسؤولون إلى كافة الجماعات المحلية. مشيرا إلى أن نشر المعلومة بطريقة أسرع يساعد على التنمية ليس في البلديات الكبرى بل حتى النائية.
الصحراء الإلكترونية لم تعد مهمة مستحيلة.. والفضل للساتل اعترف رئيس جمعية مزودي خدمات الانترنت علي كحلان، بالتطور التكنولوجي في ولايات الجنوب والذي بات يتفوق على الشمال بسبب ربطه بالساتل، بدل الكوابل المعرضة للتلف والانقطاعات، معتبرا أن المشكل المطروح السابق يكمن في عدم الترخيص لتغطية شبكة الانترنت، لكن الحكومة اليوم خضعت لمطلب السكان وباتت تمنح الأولوية للمناطق الجنوبية، في دفاتر الشروط، حتى أنها فتحت الباب على مصراعيه لاقتحام أحدث التكنولوجيا للمنطقة والتي كانت بالأمس القريب مهمة مستحيلة. وتؤكد الأرقام أن 80 بالمائة من مستخدمي الانترنت هواتفهم الذكية مزودة بالنت.
مشروع 1321 + جي 4 = 49 تراهن الحكومة على مشروع ربط 1321 منطقة نائية لا يقل تعداد سكانها عن ألف نسمة بالألياف البصرية مع 2017، بتوفير شبكة الانترنت للمواطنين والشركات والمؤسسات التربوية والجماعات المحلية عبر مناطق الوطن بما فيها المناطق المعزولة المنتشرة في الجنوب، في الوقت الذي يتنافس فيه 3 متعاملين للهاتف النقال، على ضمان أكبر حصة من تغطية الانترنت على المحمول بتقنية الجيل الرابع. المشروع الذي سيرى النور قبل نهاية السنة الجارية، حمل معه بشرى لولايات الجنوب التي ستكون أولى المحطات التي تباع فيها تذاكر 4G بداية من أدرار، بشار، البيض، بسكرة، تمنراست، تندوف، الجلفة، الوادي إلى إليزي، غرداية، خنشلة، الأغواط وصولا إلى النعامة، ورقلة وسعيدة. غادرنا تلك المناطق 10 تاركين وراءنا سكانا يساهمون في تنمية ولايتهم ال 49 التي ستبتسم لواحدة منهم، وحملنا في أذهاننا ما كان يتردد عن كون تلك المقاطعات نفس الجزائر الثاني في معركتها مع التنمية. فالمرحلة القادمة لن تعترف بمملكة الأوراق وكبسة زر واحدة لن تساعد في بناء ولاية افتراضية، بل تجعلها تبصر، عبر الأجيال التكنولوجية الرابعة والخامسة.