كيف نقرأ نحن الانتصار التاريخي لباراك أوباما؟ رجل أسود البشرة، صغير السن (أقل من 47 سنة)، نحيف الجسد، قليل الخبرة، ومع ذلك تفوّق على الجميع وفاز بثقة، ليس الأمريكيين فحسب، بل أن شعوب العالم كلها كانت ستصوت على أوباما لو فتحت أمامها مكاتب التصويت. أوباما، الذي كان أمثاله في حقبة من التاريخ الأمريكي ممنوعين من الترشح والتصويت أيضا، لم يصمد أمامه حتى كبار صانعي السياسة في واشنطن من أمثال »آل كلينتون« رغم السمعة الطيبة التي خلفتها إدارة بيل كلينتون لدى الأمريكيين سيما في تعاطيها الجيد مع الملف الاقتصادي. ناهيك عن رفقاء جون ماكاين وبارونات الجمهوريين المحافظين الذين يرعبون أمريكا والعالم. * السر في ذلك بسيط جدا في رأيي، فسواء أحببنا السياسة الأمريكية أو كرهناها، ينبغي أن نقر أن هناك نظام سياسي مفتوح يسمح ببروز النخب ذات الكفاءة العالية ويمهد أمامها سبل النجاح إذا أرادت وعملت لذلك. هناك منظومة سياسية واجتماعية قادرة على توفير الجو المناسب للمجتمع كي يجدد نخبه القيادية وينتقي من بين المتفوقين والموهوبين، بل وينتج نخبا جديدة لها ما تضيفه لتاريخ الأمة، رغم ضغط قواعد المال والرأسمالية المتوحشة واللوبيات القوية. * ميزة هذه المنظومة، أيضا، أنها لا تسمح للرداءة واللاكفاءة بأن تعشش في دواليب الدولة، بل تعادي كل أشكال الرداءة وتقمع وتعاقب أصحابها. فالمنافسة المفتوحة تجعل الناس »يميزون بين الغث والسمين«، كما يقال، ويجد الأذكياء والأكفاء مكانهم الطبيعي في المناصب القيادية الحساسة، أما الفاشلون والغشاشون فسيلعنهم الناس الذين أعطوهم ثقتهم في يوم ما. * الأنظمة السياسية المفتوحة تسمح بالمنافسة التي تجعل الذكاء، أو ما يسمى بالمادة الرمادية، تطفو على السطح ليستفيد منها المجتمع ويجدد طاقاته وقدراته، أما الأنظمة المغلقة فهي تقمع الذكاء ولا تسمح ببزوغ النخب المتفوقة بل تجعل المجتمع رهينة أناس يمارسون الأبوية المطلقة والاستغباء المعمّم لسنوات طوال عجاف، ويدفعون نحو مزيد من التقهقر. * ما حصل بعد انتخاب أوباما يحمل رسالتين واضحتين: * الأولى؛ هو أن هناك رسالة أو إشارة قوية ومطمئنة للجميع مفادها أنه من حق أي شخص أن يحلم بأن يعتلي أي منصب أراد، بما في ذلك الوصول إلى البيت الأبيض، أو منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. باب المنافسة مفتوح للأسود والأبيض، الكبير والصغير، الشرط الأساسي أن تعمل لذلك وتتسلح بزاد اسمه »الكفاءة«. وهذا ما قصده أوباما لما قال ليلة انتخابه في خطاب النصر الشهير في شيكاغو: »في أمريكا كل شي ممكن...« ...لا ننسى أن الرجل خريج جامعة هارفارد وما أدراك ما هارفارد... * والثانية، هي أن اللاكفاءة وسوء التسيير لا يجب أن تمر من دون عقاب؛ فالمجتمع بالمرصاد ليفرض التغيير الذي يريد. كان لابد من وسيلة ما يستعملها الناخب الأمريكي لمعاقبة تهور إدارة بوش وينفض يده من سياسة جلبت للأمريكيين حربي استنزاف وديمومة من الخوف وأزمة اقتصادية غير مسبوقة، ويتبنّى الأمريكي، بالتالي، سياسة أخرى. هذه ميزة أساسية للأنظمة المفتوحة بحيث تمنح لمواطنيها »سلطة الصناديق الانتخابية« لمعاقبة المسيّرين الفاشلين وإزاحتهم من سدة الحكم، وتعويضهم بمن هم أقدر على تسيير الشأن العام. وهذا ما عناه الصحافي الأمريكي المشهور توماس فريدمان في مقال له بنيويورك تايمز معلقا على فوز أوباما، حيث ذكر أن »التصويت على فريق الجمهوريين مجددا يعني مكافأة عدم الكفاءة،،، وهو استهزاء بمسألة محاسبة الحكومة...«. * بهذه الكيفية تصنع الأنظمة السياسية المفتوحة قوة مجتمعاتها لما تخلق ديناميكية تنافسية تضمن النجاح للكفاءة والذكاء والقدرة، وتزيح، بطريقة شبه أوتوماتيكية، الرداءة والخمول والفساد والغباء والتخلف... * هذا ما لديهم، لكن لننظر ماذا لدينا؟ هم يتغيرون ونحن نتحنّط! هم يسمحون بثورات حقيقية هادئة وغير عنيفة ونحن نمارس الدعاية المستمرة للنوم العام! * هناك رسائل سيّئة ترسل باستمرار في الوطن العربي نحو الكفاءة والذكاء والطموح؛ وهي أن الأبواب مغلقة بإحكام ولا مجال للطمع في أنه سيأتي اليوم الذي يتنازل فيه من بيدهم السلطة والمناصب الكبرى لأناس أحسن منهم كفاءة. بل أصلا لا يعتقد من بيدهم السلطة في الوطن العربي أن هناك من هم أكفأ منهم لتولي تلك المناصب! هم يعتقدون بأنهم خلقوا لها وغيرهم عليه السمع الطاعة. فليس مسموحا لمواطن في سنّ صغيرة أن يحلم بأن يكون في منصب الرئيس أو الحاكم أو حتى الوزير والمدير والسفير... بل على العكس، الممارسات اليومية تحمل تحذيرات شديدة اللهجة للنخب والكفاءات، مفادها أنه إذا كان لديكم طموح أو حلم معيّن فالأحسن لكم أن تبحثوا عنه في مكان آخر غير هذه الأوطان، ولم لا الوطن الذي نجح فيه أوباما! * الإشارة الأخرى، السيئة أيضا، هي أنه لا حيلة للمواطن كي يقول كلمته في أداء المسؤولين المكلفين بتسيير الشأن العام، سواء وفّوا بوعودهم الانتخابية أم لا. فمهما كان أداؤهم رديئا ومضرا بالمصلحة الوطنية العليا، بل حتى وإن جروا البلاد نحو الجحيم، لا يجد المواطن في البلاد العربية الوسيلة السلمية التي تجعله يقول لا للانحراف، بل على العكس من ذلك يفرض عليه جوا من الاحتفالات الوطنية على انتصارات وهمية يسوقها الإعلام الرسمي الذي يمنح لنفسه مهمة تغذية النوم العام... * نتيجة مثل هذا النمط في الحكم تبدو واضحة للجميع في أوطاننا. فحال أنظمتنا السياسية المغلقة تفيد أنه لا يمكن تصور ميلاد أوباما جديد في المنطقة العربية. نحن محكوم علينا، كمن يحكم عليهم بالإعدام، بنفس النخب السياسية التي شاخت في الكراسي وتعتقد بأن الله حباها لوحدها بالمعرفة والذكاء والقدرة على فهم حاجات المجتمع ومستجدات العولمة. هناك نخب سياسية تحكم في الوطن العربي منذ زمن لم يخترع فيه بعد الانترنيت والهاتف النقال والهوائيات المقعرة ولا تزال في القيادة وعازمة على تقرير مستقبل الأجيال القادمة في فترة ما بعد العولمة! لا تزال تعتقد بأن ذهابها يعني ضياع الوطن كله... لكن لم يخش الأمريكيون تسليم مقاليد حكم القوة الكونية لشاب أسود، نحيف وقليل الخبرة.