أمام الانسداد الحاصل في المشهد السياسي عشية استحقاق الرئاسيات وغياب آفاق واضحة، هل يكفي ما تفعله بعض النخب من تشريح الواقع، والوقوف عند الأسباب التي قادت نظام الحكم في بلدنا إلى هذا الانسداد القاتل، أم أنها لن تبرئ ذمتها إلا بالتوصل إلى صياغة أكثر من بديل يأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى التعامل مع الواقع، وبالضرورة البحث عن صيغ غير تصادمية، تشرك فعاليات كثيرة نافذة في النظام القائم، وإشراكها في مشروع التغيير. * المشهد الذي نراه في الجزائر هو ذاته المشهد الذي نشاهده في مصر والمغرب وسوريا، وفي معظم الدول العربية: مشهد مقفل مسدود معطل متجمد، يستعصى على التغيير من خمس طرق ممكنة على الأقل: استحالة التغيير الإرادي من الداخل، واستحالة التغيير بالقوة من الخارج، واستحالة سقوط وتفسخ النظام بطريقة ميكانيكية داخلية، واستحالة التعويل على العامل الخارجي، وأخيرا استحالة تفرد قوة أو تيار فكري بإدارة قطار التغيير، مع ضعف القوى السياسية والاجتماعية، ووهن قوى التغيير داخلها، وغياب أي ضغط خارجي أو داخلي قد يدفع بالنظام إلى طرق بوابة التغيير. * جهة الضغط الوحيدة المتبقية، تستشرف من حيث تراكم عوامل الاحتقان الاجتماعي، مع اتساع رقعة الفقر والتهميش، التي تهدد على الدوام بأشكال غير مسبوقة من التفجيرات الاجتماعية، بما قد يقودها إلى خيارات ونتائج عدمية. * * البحث عن عهد جديد بدل العهدة الثالثة * الذهاب إلى رئاسيات في السداسي الأول من العام القادم بهذا المشهد السياسي المغلق المتجمد، وبهذه الطواقم السياسية المعطلة في السلطة والمعارضة لن يفضي سوى إلى إطالة عمر الأزمة وتعقيدها أكثر، وهدر فرصة أخرى لإحداث التغيير. ولا أعتقد أن المشكل يكمن في إضافة عهدة جديدة للرئيس الحالي، أو حرمانه منها، كما أن الحل ليس في استدعاء شخصيات من الماضي، لن تحظى في كل الأحوال بمثل الفرص التي أتيحت للرئيس بوتفليقة في اتجاه إحدات التغيير، ومع ذلك فقد فشل واعترف بفشل النظام. ولست ممن يسارع إلى تحميل رجل واحد مسؤولية فشل أمة بأكملها، لم تهتد منذ استعادة الاستقلال إلى وسيلة تضع على رأس الأولويات، تخريج دفعات من رجالات الدولة من الأجيال المتعاقبة، لتوريث السلطة والقيادة بين الأجيال، لا بين العائلات والأسر السياسية والفكرية، وهو فشل نتحمل مسؤوليته أجمعين شعبا ونخبا، مهما كان موقعنا من السلطة والنظام. * * فشل وصفة دستور 89 * إذا كانت مسؤولية النظام والسلطة واضحة في عهد الحزب الواحد، فإن القوى التي تشكلت في أعقاب دستور 89 قد فشلت في وضع إطار سليم لتنشئة قيادات منفتحة على الشباب، تتدرج بهم في مستويات المسؤوليات داخل الأطر الحزبية، قبل التعويل عليهم في إدارة الدولة والمجتمع. فمعدل الأعمار للقيادات بمعظم الأحزاب السياسية هو فوق الخمسين، ولم نشهد أي تداول ديمقراطي على رأس الأحزاب، إلا ما كان من نتائج الانقلابات العلمية والتصحيحيات الخرقاء التي لا تختلف عن منهج تصحيح 19 جوان. جميع الأحزاب المنبثقة عن دستور 89 احتفظت بزعاماتها، مع كل ما لحق بها من هزائم وانتكاسات. فسعيد سعدي، ولويزة حنون، وجاب الله، لم يحتاجوا إلى تعديل دستوري لضمان رئاسة أحزابهم مدى الحياة، ومايزال الأفافاس، وهو أقدم حزب معارض يدار كمشيخة تحت إمرة الدّا الحسين، ولو لم تعالج المنية الشيخ نحناح لكان استمات في رئاسة حمس. وحدهما الحزبان الرئيسان في السلطة: الأفلان والتجمع الوطني، شهدا قدرا من التداول على السلطة عبر طرق الانقلابات العلمية، والتعيينات الفوقية من خارج أطر ومؤسسات الأحزاب. ولو أن جبهة الإنقاذ لم يطاولها الحظر، لكانت ظلت حتى اليوم مشيخة وراثية. * * التغيير بالقوة الناعمة * كل هذا معلوم عند الخاص والعام، وقد أوردته من باب التذكير ليس إلاّ، لكي أصل إلى نتيجة، وخلاصة تقول باستحالة التعويل على التغيير، لا من داخل النظام ولا من خارجه، لا بالطرق السلمية، ولا بطرق العنف، وأننا بحاجة إلى ابتكار مقاربة جديدة تعترف أولا بحقيقة الانسداد، واستحالة التغيير بالطرق التقليدية، وتكون على قدر من الواقعية بتقديم صيغ تطمئن الجميع، وتشجع الأطراف الماسكة بحقيقة السلطة على أنها قد تكسب أكثر مع التغيير مما تكسبه من خيار المجازفة الخطرة التي تعول على ضعف المعارضات، وتتجاهل تداعيات الانفجارات الاجتماعية القادمة، كما تعمل بنفس القدر على طمأنة الأحزاب القائمة، وتشجيعها على القبول بمبدإ التدرج المنهجي في سلم التغيير ووسائله، وأن إنقاذ البلاد ينبغي أن يتغلب عندها على مشاريع الانتقام، وأنها في المقابل سوف تفكك وتدرس، ويذهب بها الطوفان مع النظام، إن لم تقبل ببعض التضحيات التي تفرضها عملية الإنقاذ. * ومع طمأنة أولئك وهؤلاء، ينبغي أن تحرر رسائل مطمئنة لفئات الشعب المحرومة المحاصرة بالفقر والحرمان، وإقناعها بتحمل مزيد من التضحيات، لأنها أهون وأقل كلفة من تداعيات الانقياد إلى الخيارات العدمية التي قد تذهب بنا إلى تفسخ الدولة، والوقوع في ما وقعت فيه الصومال. * * نخب غير متورطة لقيادة التغيير * هذه المقاربة مع ما تضمره من اعتدال، تبقى مجرد تمني، ورأس بلا جسد يحمله، مادامت إرادة التغيير مفقودة عند النظام، والقدرة على التغيير معدومة عند القوى التي تنشط بشكل منظم على هامش السلطة، في الأحزاب والتنظيمات المعتمدة، أو عند أفراد ومجموعات غير معترف بها في المشهد السياسي الرسمي، ولا يمكن التعويل، بل لا يجوز التعويل على تغيير تنتجه القوة من الداخل أو بالاستعانة بقوى خارجية، وفي الوقت نفسه نكون جميعنا شركاء في الجريمة التي قد تفضي بالبلد إلى مسار يلحقها بالأمم الفاشلة التي تتفكك فيها الدول، وتنحل قبل أن يختطفها المغامرون، وجماعات العنف العدمي، والعصابات والقراصنة. * مسؤولية المبادرة تقع على عاتق النخب المثقفة التي تستشرف هذه الأخطار والتهديدات، وتعي في الوقت ذاته استحالة التعويل على تغيير ينجز على يد من هم في السلطة أو من يزاحمهم على السلطة، وهي أطراف منغمسة في صراع على السلطة واقتسام الريع، يمنعها من إبصار هذا الحجم من التهديدات التي لن تسلم منها لا السلطة القائمة، ولا المزاحمون، وهم بحاجة إلى قوة ثالثة، ليست متورطة في هذا الصراع، غير متهمة بولاء عقائدي حزبي أو فكري متعصب، ولا هي متهمة بعداء وخصومة للنظام أو لخصوم النظام، ثم تجتهد لتكريس مصداقيتها بالتزام معلن، على أنها قد أقصت نفسها بمحض إرادتها من المشاركة في ريع السلطة، بما يؤهلها لمخاطبة السلطة، وجميع الفعاليات، بمبادرة تقترح مسارا متدرجا للخروج من الأزمة وحالة الانسداد، وإعادة تأهيل الدولة، للاطلاع بمهامها الرئيسة لقيادة البلاد والعباد، والخروج بهما سالمين من العواصف والأعاصير التي نكاد نراها رأي العين. * * وفاق وطني على أولويات الوطن * أرى أنه من واجب هذه الفئة التي تضطلع بهذه المهمة، أن تنطلق من مبدإ حسن الظن بالجميع، والابتعاد عن منهج الإدانة والشجب والتخوين والطعن في وطنية الآخرين، وأن تنطلق من مسلمة بسيطة خلاصتها، أن القوى المستبدة بالسلطة، كما القوى التي تزاحمها، ليست ملمة بهذه الأخطار والتهديدات القاتلة التي تهدد مصالحها ومكاسبها، إن لم يكن على المدى القصير، فبالتأكيد على المدى المتوسط المنظور، وأنه من الواجب مفاتحتها عبر نقاش وطني مفتوح بشأن هذه التهديدات، ودعوتها إلى شراكة وطنية منفتحة على جميع القوى الطيبة دون إقصاء، للبحث عن مخارج معقولة ومتدرجة، وتحديد أولويات تصرف إليها طاقات ومقدرات البلاد قبل نفاد الفرص القليلة المتوفرة، تكون الأولوية فيها لإعادة بناء الدولة وتأهيلها وفق الوظائف والمهام التي تتطلبها المرحلة القادمة. ولا ينبغي في هذه السياق، أن تكون المطالبات بمزيد من المشاركة، ومزيد من الحريات السياسية والفكرية كغايات في حد ذاتها، بقدر ما نتوقف عند القدر الذي يفي منها بتمكين الدولة من التصدي للأولويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. * * دولة آمنة لأمة تعمل * وفي هذا السياق قد يكون من المفيد التذكير بالأولويات التي يمكن أن يتحقق حولها إجماع وطني، بعيدا عن المرجعيات العقائدية السياسية والفكرية. * أولوية الأمن: بإعادة بناء الدولة وتأهيلها كإطار وأداة لمعالجة بقية الأولويات، تحتاج إلى وفاق وطني لا يشوبه تردد حول وجوب تحقيق مستوى مقبول من الأمن بمفهومه الواسع، ومنه الأمن الاجتماعي، والبحث عن هذا الأمن بطرق الإقناع والحوار والشراكة، وطمأنة الناس على مستقبلهم، ومستقبل أبنائهم، في الجانب المادي، وإذابة الهواجس والمخاوف على معتقداتهم الدينية والسياسية والفكرية والثقافية، حتى مع ترحيل معالجتها إلى مواعيد لاحقة. * أولوية الشغل: بتجنيد طاقات البلاد المعلومة، والبحث عن الطاقات الكامنة لإنتاج وتوفير مناصب شغل، بعيدا عن إملاءات اقتصاد السوق، ومقاييس الجدوى والنجاعة. بتصور برنامج واسع في مجال المنشآت القاعدية، واستصلاح الأراضي وتوفير مناجم جديدة في قطاعي المياه والطاقة، وكلها مجالات تبرر لجوء الدولة بشأنها إلى الاستدانة الداخلية وتوظيف عجز الميزانية. * أولوية الإعمار الراشد: بإعادة النظر في السياسة العمرانية، ومقاربتنا لحل مشكل السكن، وإدارة المدن، والتخطيط لسياسة عمرانية جديدة، تجمد التوسع الفوضوي في الحظائر الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، والانتقال بالحركة العمرانية نحو تعمير منطقة الهضاب، وشمال الصحراء الكبرى، بتشييد وريد مواصلات يربط شرق البلاد بالغرب على امتداد الهضاب العليا، تنشأ من حوله مدن وظيفية جديدة تكون قادرة على تشجيع بناء حواضر متوسطة من حولها، على أن يحظى هذا الشريط العمراني بمحفزات جبائية كافية، وتمليك سهل ورخيص للأراضي، ونظام قروض وتمويل يحفز على المبادرة. * ََََالأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت للتو، توفر فرصة غير مسبوقة لإقناع الأفرقاء بحتمية إحداث التغيير، والسعي إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة وتأهيلها لقيادة البلاد بأقل الأضرار في العواصف الهوجاء التي تعد بها الأزمة الاقتصادية العالمية، أو نهيّئ أنفسنا لعهد لن يجادل فيه بعضنا البعض بشأن عهدة ثالثة أو رابعة لرئاسة دولة فاشلة تتخطفها العصابات المغامرة وفلول القراصنة، وفصائل لا قبل لنا بها من الإرهاب.