قبل أحداث غزة وبعدها.. إلى أين سيأخذنا الصراع بين الوطنيين والإسلاميين؟ يمثل هذا السؤال إشكالية لخلفيات تراكمت، اختلط فيها الميراث الاستعماري بمواقف الحركات الوطنية والقيمة الدينية للجهاد. * الواقع أننا، في حدود ما أعلم، الأمة الوحيدة في الأرض التي يتضارب مفهوم الوطن عندها مع الأيديولوجيا، فكيف يمكن القبول بصراع بين الوطن والدين؟ وكيف ننقل هذا الصرع إلى الاستعانة بقوى خارجية من أجل تحطيم المعارضة في الداخل، حتى أننا ونحن نقوم بذلك لم يشفع لنا في بطشنا وبأسنا بيننا أي ميراث مشترك سواء على مستوى الإيمان أو على مستوى الفعل الثوري * لنتأمل مليّا تجارب الدولة الوطنية في مصر وسوريا والعراق والسودان والجزائر ولبنان واليمن، ففي كل هذه الدول انتهت التجربة الوطنية إلى صراع دموي بين طرفين يعول عليهما لتشكيل جناحي الأمة، وبانعدام الجناحين وقعنا على الأرض وأصبحت أوطاننا مستعمرات جديدة، حيث أبعدت مصر عن دورها الحضاري وتحولت إلى وسيط بين إسرائيل والفلسطينيين في الوقت الراهن يعتبره الفلسطينيون وسيطا غير عادل بل ومرفوضاً واختطفت منّا العراق ليدمر المشروع الوطني ويقدم فيه الآن مشروع طائفي مشوّه للدين ومدمر للحضارة، وتخلت الجزائر في السنوات الماضية أمام الحرب الشديدة بين قوى بدت متناقضة عن دورها في صياغة مشروع الأمة والمساهمة فيه، وكادت الحرب الإسرائيلية ضد لبنان أن تنسف الوحدة بين اللبنانيين لوجود مشروعين أحدهما يدعي أنه وطني والثاني هو حقاً مشروع ديني واضح بغض النظر عن اجتهاداته أو مذهبه، والحال في السودان ليس منا ببعيد، فالضغوط الدولية المتكررة تشي بانقسامه إلى دويلات صغرى يسهل احتواؤها، وفي اليمن بلغت الحرب بين القوى المختلفة الممثلة للتيارين الوطني والإسلامي ذروتها، ولم تبقَ إلا سوريا بعيدة عن الصراع الداخلي نسبيا لأن الإسلاميين لم يتمكنوا بعد ولأن حزب البعث لايزال مسيطراً. * هكذا هو المشهد العربي العام على مستوى دوله المستقلة وحتى تلك التي لم تحتل، ويستثنى من ذلك دول الخليج التي ظل الصراع محدودا فيها على المستوى النظري كما هي الحال في الكويت والبحرين، ويرجع المراقبون ذلك إلى عدم قيام جمهوريات، حتى أن البعض يدعو إلى أن الأفضل للدول العربية الأخرى أن تصبح ملكية، لكن هذا الواقع تكذبه الحالة السعودية بعد أن ظهرت القاعدة وقامت بعملياتها في دولة ظلت إلى وقت بعيد بعيدة عن الصراع لمكانتها المقدسة في قلوب المسلمين، ليس هذا فقط بل إن السعوديين هم الذين إن صحت الرواية الأمريكية أوصلوا الصراع بيننا وبين الولاياتالمتحدة إلى ذروته في الحادي عشر من سبتمبر. * مهما يكن من أمر، فإن الوضع العربي العام يكشف عن خلل واضح في الجبهة الوطنية، يتطلب فرزا للقوى السياسية، ومن ثمة إما تمد جسور بين القوى الفاعلة لأجل حماية الأوطان، وإما أن تسلم إحدى القوى للأخرى بصلاحية وشرعية الحكم وتطبيق البرنامج. * قد يكون عجبا أن نقول أن الممارسة الديموقراطية، إن اخترناها، أو الشورى من المنظور الإسلامي، إن عدنا إليها، تبدأ من اختيارات الشعوب وقناعاتها، فحين تتحرك هذه الأخيرة كما هي اليوم من أجل غزة وتوحدها مشاعر العداء لإبادة العنصر البشري لا يمكن للقادة آنذاك أن يعتقدوا بوهم زائف أنهم يدركون أكثر من الشعوب، إذاً الخلل في رأس السمكة كما يقولون، وحين يبدأ من هناك فيجب القطع، وواضح أن ردات الفعل لإهانة الشعوب انتهت إلى فعل رافض لكل العلاقات والتوقعات، لأن أحداث الواقع أكبر من أن يسلم الناس فيها بأملٍ قد يحصل أو لا يحصل. * نحن مقبلون على حربٍ دامية في داخل أوطاننا العربية، ولنتجنبها ليس أمامنا إلا واحداً من ثلاث: إما العودة للشعوب بصدق لتأكيد اختياراتها وإما الاتفاق حول مشروع واحدٍ يجمع بين التيارات ولنا في تجربة جبهة التحرير الوطني أثناء التحرير خير مثل على ذلك، وإما القبول بوجود الآخر ويتحول من أراد من القادة إلى حاكم ولاية لدى الغرب. * الخيارات الثلاثة السابقة يمكن تفضيل أحدها على الآخر حسب قناعات الذين لا يودون لأمتهم أن تضحك من جهلها الأمم، ويسعون جاهدين من أجل تكسير قاعدة »من يهن يسهل الهوان عليه«، وهذا يوصلنا إلى التأكيد على أن أطروحات الإسلاميين والوطنيين هي على المستوى النظري حق ولكنها على المستوى العملي باطل، إذ يصح القبول بتعدد وجهات النظر حول المسألة الواحدة حتى في القضايا الدينية، فما بالك بالدنيوية؟! لكن هذا التعدد والاختلاف هو بحثاً عن الأحسن وليس طريقا للحرب لتبدأ أوزارها ولا تضعها أبداً * ومن باب التأكيد مرة أخرى لنذهب إلى كلمة سواء بين الفريقين المتخاصمين وهما متخاصمان في الحقيقة من أجل الآخر ونبحث عن الخلاف الحقيقي بين ما يسمى وطناً وما يعتبره البعض دينا أو قناعة دينية أو اختيارا إيمانياً، سنجد في النهاية أن دوافع البشر حين انجذبوا لزخرف القول غرورا وغرتهم الدنيا بما فيها انتهوا إلى تحويل الخلاف إلى حرب بين أفراد المجتمع. * صحيح أنني، ومثلي كثْرٌ، أتحيّز في الوقت الراهن وأثناء أيام الجهاد كلها إلى ما يمكن اعتباره تيارا دينيا جارفا، ليس فقط لأن ذلك يجعل الإسلاميين في تجارة رابحة مع الله وفي الجبهة الأولى للدفاع عن الأمة ولكن أيضاً لأن الدماء التي تسيل من أجل القضية والدفاع عن الأوطان هي التي تقدم الحماية لنا نحن البعيدون عن مواقع الحرب المحتمون بكلماتٍ نلقيها هنا وهناك لا تساوي شيئاً مع الفعل * إن قوى المقاومة المختلفة وهي تقوم بذلك تحسم أمر هذه الأمة لجهة ثبات مشروعها الحضاري، خصوصاً ونحن نرى المستضعفين منا يعطلون مشروعا أمريكيا شرق أوسطي تجمعت من أجله كل قوى الشر، ودانت له الرقاب واطمأنت له قلوب كثير من قادتنا، فعطلته المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين والصومال، لذلك لا يحق لنا اليوم أبداً وتحت أي مبررٍ أن ندين المقاومة إن أخطأت. * أبعد هذا كله هناك حديث آخر لما يجب فعله أو عدم فعله؟.. فلينتهِ الصراع إذن بين ما يسمى بالوطنيين والإسلاميين، وليدركا جيداً أنهما يمثلان جناحي الأمة، وبتر أحدهما يجعلها غير قادرة على الطيران، أما إذا قطع الإثنان فقد انتهت على مستوى الدور والرسالة.. من أجل إنقاذ ما بقي فلتضع الحرب أوزارها بين الطرفين وإلا ستنفرد بهما الأمم باعتبار أن كلاًّ منهما يمثل الشاة القاصية وذئاب الغرب والشرق لها بالمرصاد.