لم تجيء الدعوة يومها لا من السكرتيرة، ولا من الأمين العام، أو من مدير الديوان، إنما وللغرابة، من مسئول الحرس الخاص للسيد الكبير. تركه ينتظر ما يزيد عن عشرين دقيقة في الرواق الفاصل بين قاعة الاستقبال وبين المكتب. * وعندما يئس، وامتلأ بالملل، أذنت له السكرتيرة بالدخول، لكن، الأنبوبة الحمراء ما تزال تلمع، معلنة، عن وجوب الانتظار. * ألقت نظرة مشفقة عليه، ثم انصرفت لشأنها، محنية الرأس. * قطع خطوات، أماما، ثم خلفا، وفي كل مرة يرفع بصره نحو الأنبوبتين الخضراء والحمراء. * "من ناحية، أنا تابع لوزارة الثقافة، أتلقى منها الأوامر، وحر في تسيير الميزانية المخصصة للمديرية، وأوجه لها التقارير، ومن ناحية أخرى أنا مهيكل، في هذه الولاية، لا أستطيع أن أتنفس إلا بمشيئة السيد الكبير. يتصرف معي، كما لو أنني أحد الكتبة، عنده. * ترى ما سيكون الوضع، لو أبدي بعضا من التمرد عليه..؟ * يلغي حضور الاجتماعات. * توقف السيارة بسبب أو بآخر. * تعيين أحد مساعدي للتواصل معه، بدلا مني. * تغييبي عن الحفلات الرسمية وتنقلاته. واستقبال الوفود الزائرة. * إمكانية منعي من دخول بعض المواقع في الولاية. * يدوم ذلك، وقتا، الله أعلم بمداه، في حالة الغضب من الدرجة، البسيطة، أما إذا كان من الدرجة القصوى، من الكبائر، فتقرير سريع للوزارة الوصية علي، للوزارة الوصية عليه، وتتجند الأجهزة السرية بكل أنواعها، لإلصاق التهم وكيد المكائد. * أجمد شهورا. * أحول إلى الإدارة العامة. * ربما، ربما، إن كنت محظوظا، أحول إلى ولاية أخرى في نفس المنصب. * اللهم اجعله خيرا." * رن جرس. انطفأ الضوء الأحمر. نوّر النور الأخضر. * بحث عن موضع في الباب المجلد، يدق منه، اقتحم الباب الذي كان الجرس سببا في فتحه. * حيّ. تفحص مليا، الوجه الضخم، المدثر بدخان السيغار. انتظر الأمر بالجلوس. حاول قدر الإمكان أن يكون ثابت الجأش رابطه. * لماذا لا تجلس؟ * أوامركم سيدي الكبير. * اطلعت على برنامج النشاط الذي أعددته، وقد راق لي كثيرا. كما أحب تماما. مهرجانات، ومهرجانات. حفلات وسهرات. فولكلور من كل نوع. استبعدت ما كان سلفك يرهقنا به من الكلام الفارغ، مثل المحاضرات والندوات، ومسرحيات تعّرض بسلطات البلاد.. وما إلى ذلك من ثرثرة لا تجلب سوى الأذى. * كما لو أنك اطلعت على ما يدور في خاطري. * المغني يمكن أن نطلب منه نوع ما سيغني. الراقص يمكن أن نوقفه في أية لحظة، بإيقاف العازف. أما المحاضر، فلا يمكن أن نتحكم فيما سيقول. ابعد عن البلى يبعد عليك. * الحمد لله الذي وفقني بفضل التوجيهات السديدة التي تتفضلون بها علينا جميعا. * لكنك خبيث ولئيم، ونذل ابن نذل.. ككل الشيوعيين الكلاب. * سيدي الكبير. * سود الله وجهك.. تقدم لي برنامجا، وتتآمر مع المتمردين، على برنامج آخر مواز. * سيدي الكبير. * عشر محاضرات كاملة، منها اثنتان يلقيهما أجانب، وخمسون شاعرا تجمعهما هنا عندي، ولا خبر.. آخر من يعلم. * لا أفهم ما تقول حضرة السيد..؟ * خذ . اقرأ أليس هذا برنامجا موازيا؟ * هذا برنامج أعدته جمعية مستقلة عنا، ولم أقدمه لكم باعتبار أنه خارج عن نشاط المديرية. * بلا مستقلة، وبلا استغفال. نعطيهم الدعم، ويظلون مستقلين... * اسمع لا يوجد استقلال أصلا في هذه المنطقة، في هذه البلاد كلها. نحن حصلنا عليه، هذا الاستقلال، ونحن نعرف كيف نتصرف فيه، ونفعل به ما نشاء. اكتسبناه بالدم، ومن له قدرة على انتزاعه منا.. فليتقدم . * إن الذين أقروا في مؤتمر الجبهة، مبدأ وحدة التفكير، هم الذين ما يزالون يحكمونكم. الدولة التي اختارتني ووضعتني هنا، تعلم ما تفعل، وليس معنى أن لك ميزانية، وحق التصرف المالي، أن لك أيضا، حرية إنشاء الخلايا وبث أفكارك الجهنمية. * أنا هنا كل شيء. هل فهمت.؟ * واضح سيدي الكبير. * مع من تعشيت البارحة، أليس مع رئيس جمعية المحاضرات الحمراء هذه؟ من أعطى هذا الحمار أسماء المحاضرين؟ ألست أنت؟ لقد خصصت له ولجمعيته، مبلغا يساوي كل ما حصلت عليه الجمعيات الأخرى مجتمعة. * هذا هو أسلوبكم الذي لا يتغير. تعطون بيد، وتأخذون بأخرى. * قدم السيد الكبير، له تقريرا معدا بطابعة ليزر في عدة صفحات، يتضمن موجزا عن ماضيه السياسي، عن الولايات التي تطوع فيها لمساندة الثورة الزراعية، عن نوع الخطب التي كان يلقيها، عن زوجته، عن علاقتهما الحزبية، حتى عن اسميهما السريين. * هل المعلومات الواردة صحيحة؟ * بسرعة فائقة. * سرعة لا يقوى عليها سوى العقل البشري، ذاكم الذي يطوي الأزمنة والأمكنة، إلى أن يلغيها، فيجعلها شيئا ربانيا، تتجلى فيه كل الأشياء... نقطة مليئة بكل ما في الكون. * انصرف ذهنه، إلى جميع الاحتمالات، وجميع القضايا المرتبطة به، بالسيد الكبير، بالولاية، بالسلطات جميعها، بالموقف الصح من الخطأ، بما قد يترتب عن الإنكار، عن الاعتراف، عن إمكانية تصريف الأمر وتجاوزه، عن الزيارة المزمعة لصديقه الضابط، عن هذا الغضب المفاجئ للسيد الكبير، هل هو حقيقي أم مفتعل، فمزاجه يبدو أنه اصطناعي، برمج، وحفظ في اسطوانة يركبها حين يكون داخل المكتب أو بصدد استقبال موظف أو زائر ما... * ليتحمل كل منا مسؤولياته. * إنكار ما هو حقيقي، تعقيد لا فائدة من ورائه. * مائة بالمائة. * قال. * تظاهر بأنه لم يستطع التحكم في أعصابه، أكثر مما فعل. * نهض، بعد أن وضع التقرير بحركة عادية أمام السيد الكبير، كرر. * مائة بالمائة. سيدي الكبير. والسلطة التي عينتني، هنا، في هذا المنصب الحساس، على علم، بكل التفاصيل، بل، أنا واثق، من أنها اختارتني، لهذه المنطقة الحساسة، لكل هذه التفاصيل. * احتراماتي سيدي الكبير. لكن وحسب علمي توجد سلطة واحدة في هذا البلد، وهي مصدر التوجيه، حتى وإن سلمنا، بوجود التعددية الحزبية، وما ننادي به من حرية الرأي والتعبير والصحافة. * اخرج. اغرب. نعلم أنكم تحسنون الكلام والخطابة. * خرج غاضبا بدوره، حتى أنه لم يغلق الباب خلفه. * ما أن تواجد في الرواق حتى ظهر الفراشون، ورئيس الديوان، والسكرتيرة. والسائق والأمين العام. * كانوا ينظرون إليه جميعا باستغراب، وتعجب، كيف، وهو المؤدب، الهادئ، الوقور، مدير الثقافة، الذي لا تفارق ربطة العنق رقبته، يسمح لنفسه، بأن يثير السيد الكبير إلى هذا الحد. أي نوع من الاستفزاز، هذا الذي أوصل الأمور بينهما إلى هذا المستوى؟