أن يتم حكم البلاد من خلال سلطة قوية شيء، وأن يتم حكمها من خلال نفوذ قوي شيء آخر، وأن يتم ذلك من خلال الوسيلتين معا بديل ثالث لعلنا لم نعرفه إلا نادرا في تجربتنا التاريخية ولفترات محدودة. ولكي نزعم أننا سنندرج ضمن ديناميكية حقيقة في مجال التطور والبناء المؤسساتي، لكي نرتقي إلى مصاف الدول الصاعدة ينبغي لنا أن نبحث في آليات استعادة الأفراد والمؤسسات لنفوذهم بدل سعينا المستمر إلى تمكينهم من مزيد من السلطة وإفقارهم تماما من كل نفوذ... ارتبط مصطلح السلطة power تاريخيا لدى علماء السياسة والاجتماع بمعانٍ لها دلالات مادية بالأساس، كميزان القوة، والقدرة المادية على التأثير، وإمكانية الإخضاع من خلال القهر، وامتلاك المقدرات المالية، والهيمنة والاستيلاء... الخ، في حين ارتبط مصطلح النفوذ authority في حقل الدراسات السياسية بمعانٍ لها دلالات معنوية بالأساس، كالشرعية وميزان الكفاءة، واحترام القانون، والاعتراف، والرضا، والتوافق، والهيبة، والمصداقية، والاعتقاد، وحتى الحب (حب الجماهير للقائد)... الخ.. لو حاولنا أن نبحث عن حقيقة واقعنا السياسي اليوم من خلال قائمتي المصطلحات السابقتين لوجدنا بكل سهولة أننا نسير أكثر باتجاه إقامة بنائنا المؤسساتي على أساس السلطة لا على أساس النفوذ فما بالك على الأساس المتوازن من الركيزتين معا. أكثر الناس موضوعية في التحليل يقول لك إن ميزان القوة اليوم هو الذي يحدد مصير العلاقات الاجتماعية والسياسية وليس ميزان الكفاءة، بل قد يسخر منك البعض إن تحدثت عن قوة للكفاءة العلمية أو السياسية أو الإدارية مقابل القوة المالية أو المادية.. لقد وصلنا إلى حالة لم تعد فيها أي إمكانية للمقارنة بين فردين على أساس الكفاءة أو الخصائص الأخلاقية، إنما كل المقارنة تتم على أساس ما يمتلك هذا أو ذاك من مقدرات مالية أو وسائل مادية يستطيع أن يُخضع بها الآخرين. كما أن النتيجة أصبحت تكاد تكون محسومة في أذهان غالبية الناس أن النصر سيكون لصالح مَن يمتلك المال والقوة المادية على حساب من يمتلك الحجة والكفاءة أو الخصائص الأخلاقية. أما الحديث عن انتصار أحد أطراف المعادلة على الآخر من خلال القانون أو التراضي فقد أصبح يصنف ضمن الحالات الشاذة أو المثاليات التي لا يمكن قبولها في هذا الزمن "الواقعي" القائم على سيطرة المادة في جميع المستويات... ويا لها من حالة مُضحكة إن تكلمت عن الانتصار في المعارك السياسية من خلال "الحب"، حب الناس لهذا أو ذاك: لأخلاقه وورعه وقيمه وسلوكه وطيبته... الجميع سيشعرونك بأن زمن حب الناس لبعضهم البعض قد ولى فما بالك بحب الجماهير لزعيمهم أو قائدهم... وباستثناء ذلك التعلق الذي يمكن إحياؤه لدى غالبيتنا المرتبط بقيمة الرجولة، (الخاص بالجزائريين) فإن باقي القيم التي تصنع النفوذ تكون قد انهارت اليوم أو هي في طريقها إلى الانهيار. فغالبية الجزائريين مازالت لا تتردد في قبول "الفحل" "الرجل" إذا ما هبَّ أمامها وظهر في بعض المواقف كذلك. أما دون ذلك فإن كل شيء يبدو أنه يتجه نحو تعزيز قيم السلطة وتهميش قيم النفوذ، التي هي وحدها القادرة على صناعة النظام المتوازن القادر على البقاء. ولذلك ينبغي التنبيه في مستوى صياغة رؤيتنا المستقبلية لهذا الجانب بالقول: إنه لا يمكن لدولتنا أن تستمر قائمة ومتماسكة فقط بالارتكاز على مقومات السلطة. ينبغي استعادة مقومات النفوذ مرة أخرى كما عرفتها في بعض الفترات من تاريخها. ينبغي أن ننتبه أن العناصر التي تُبنى عليها السلطة معرضة للانهيار في أي وقت من الأوقات في حين إن العناصر التي يُبنى عليها النفوذ لا يمكنها أن تنهار إلا من خلال عمل سلبي مستمر في الزمن قد يدوم لسنوات أو عقود. لذلك تجدنا اليوم نحتار كيف تم القضاء على ركيزة النفوذ في الحكم لدينا من غير أن نستشعر الأمر؟ كيف تم تحويل مجتمعنا إلى مجتمع كانت لديه مثاليات يخضع من خلالها للحكم إلى مجتمع لا يخضع إلا لوسائل القهر أو الإغراء الماديين، ويخضع لها وحدها أحيانا، في تنكر شبه تام للوسائل الأخرى؟ لقد حكم الرئيسان أحمد بن بلة وهواري بومدين بوسائل السلطة حقيقة، ولكنهما أيضا امتلكا نفوذا معتبرا لدى الجماهير،إما كانت تحبهما أو تحترمهما أو تقدرهما أو تخاف عليهما أو تعترف بشرعيتهما بطريقة أو بأخرى رغم وجود من يعترض على ذلك أو لا يوافق على ذلك، ولكن بعدهما تدريجيا، وبالنظر إلى عدة اعتبارات، بدأ النفوذ يأفل من أدوات الحكم التي نستخدمها.. وحتى عندما عاد لنا مؤقتا في فترة من الفترات في عهد الرئيس ليامين زروال باسم الوطنية والرجولة الحقّة، ما لبثنا أن فقدناه تدريجيا وعدنا إلى الحكم من خلال الوسائل التقليدية للسلطة وعلى رأسها الولاء التام، والخضوع لسلطان المال والمصالح والبحث عن المناصب والمقامات والخوف من العقاب المادي بالإقصاء والتهميش وغضب السلطان... وهكذا أفقدنا الدولة الارتكاز على ركيزة مقومات النفوذ وإن حاولت وسائل إعلام رسمية صناعته دون جدوى.. لم يعد المواطن مقتنعا اليوم أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تحكمها الشرعية أو الكفاءة أو الاعتراف أو التلاقي الروحي والمعنوي أو الهيبة أو المصداقية أو المحبة النقية، كل ما يحدثك عنه الناس هو أن هذه العلاقة يحكمها ميزان القوة المبني على من تكون وماذا تملك من مال وجاه وعلاقات وما تقدمه من خدمات أو ما تعبر عنه من استعداد للولاء وللخضوع والهيمنة على مصيرك من قبل الآخرين. وهذا يمس جوهر الحكم في بلادنا، ويهدد تغييره، من طابعه الجمهوري إلى طابع آخر يقوم على الحكم الأرستقراطي في مرحلة أولى ينظر بعين العطف إلى حاجات الجماهير في الطبقات الدنيا، ثم إلى حكم أوليغارشي لا يعترف إلى بمصالح الفئة العليا في أعلى هرم الدولة وخاصة عندما تشح الموارد أو تصبح محدودة لا يمكنها أن تصل إلى الفئات الدنيا. ولعل هذا ما يجعلنا ننبه إلى مصير تماسك الدولة في ظل بقاء الوضع على ما هو عليه لآن ونصر على القول بأنه علينا، إن كنا نحرص بالفعل على مستقبلها وتماسكنا، أن نعيد الاعتبار إلى الحكم من خلال النفوذ. أن نبحث في من يحكمنا على أساس الشرعية الحقيقية والكفاءة والرضا والاعتراف والتلاقي الروحي والتطابق المعنوي، بدل هذه السياسة الراهنة التي تكاد تعتقد اعتقادا مطلقا أنها لن تتزعزع ما دام ميزان القوة المادي والمالي والدولي وجميع وسائل الإكراه الأخرى في يدها.. وتؤمن أنها يمكن أن تبقى سلطة حتى من غير نفوذ...