يشكك البعض في أننا لا يمكن أن نصل إلى حلول توافقية بشأن الدستور أو نظام الحكم أو الخيارات الأساسية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وبخاصة موضوع محاربة الرشوة والقدرة على تحقيق تحول ديمقراطي سلس يسعى لبلوغ مرحلة الدولة الصاعدة، ويعتبرون ذلك بالأمر البعيد المنال، في الوقت الذي تدل كل المؤشرات أنه يمكننا بالفعل، إذا أردنا، أن نُحدِث التوافق الضروري الذي يحقق لنا التحول المنشود الذي طالما انتظرناه لكي نكون بالفعل تلك الدولة التي تأخذ طريقها الصحيح نحو التقدم والازدهار كما حلم بذلك ذات يوم شهداؤنا الأبرار. بالرغم مما يبدو من شبه انسداد سياسي اليوم من خلال ما يبرز من معارضة جزء من الطبقة السياسية لمشروع الدستور التوافقي الذي طرحته السلطة، إلا أن الحقيقة الأهم التي ينبغي إبرازها أن هذه الطبقة السياسية، برغم ما عليها، لا ينقصها الوعي ولا الخبرة السياسية لكي لا تعمل باتجاه التوافق. يكفي أنها تجاوزت الكثير من الطابوهات التي مازالت لم تتخلص من مثيلتها الكثير من البلاد العربية حيث لم يعد من الغريب في الجزائر أن يجلس العلماني جنبا إلى جنب مع الإسلامي المعتدل والراديكلي أيضا، وأصبح من قبيل التقليد أن تُعقد التحالفات على أسس سياسية بحتة بعيدا عن كل تمايز إيديولوجي بين هذا أو ذاك. فلم يعد اليوم مثلا مستغربا أن تتحالف حركة حمس ذات التوجه الإسلامي مع جبهة التحرير الوطنية أو أي حزب آخر تتوافق معه سياسيا بغض النظر عن الطرح الأيديولوجي والمنطلقات الفكرية، وأن يدوم ذلك التحالف أكثر من 15 سنة، الأمر الذي كان سابقة في التاريخ المعاصر للشعوب العربية وإن فسّرناه في حينه بأنه تحالف ضد الطبيعة أو ينم عن حسابات مصلحية أو انتهازية ضيقة، أو بدا لنا كذلك وانتقدناه. يكفي أن نلاحظ كيف أصبحت التجربة التونسية الناجحة اليوم في مجال الانتقال الديمقراطي مضرب الأمثال بأنها تمكنت من إيجاد صيغة عمل جماعي بين الإسلاميين والوطنيين والليبراليين واليساريين ومختلف الفصائل والتوجهات الفكرية التي تتنافس حول السلطة وحول تسيير شؤون البلاد بتنازل واضح من حركة النهضة الاسلامية عن المغامرة في السعي للحكم بمفردها وبتطوير الكثير من المواقف التي لم يكن أحد يعتبرها قابلة للتنازل لدى حزب مرجعيته إسلامية وإخوانية بالتحديد. يكفي ذلك لندرك أن الذي يحدث في تونس اليوم حدث تقريبا بنفس الصورة التي حدثت في الجزائر قبل نحو 15 سنة عندما قبلت حركة مجتمع السلم الانخراط في العمل السياسي بالجزائر وقبلت الكثير من المواقف بدت لنا في حينها أحيانا أنها تنازلات لا تغتفر. بمعنى آخر أنه إذا كانت الطبقة السياسية في تونس قد وصلت منذ أقل من ثلاث سنوات إلى القبول بوزراء حركة إسلامية في الحكم، وذلك بفضل تضحيات قيادة الحركة الجسيمة وتنازلاتها العديدة لكي تصل تونس إلى الحالة التوافقية التي هي عليها الآن، فإن الأمر في الجزائر حدث مع مثل هذا الفصيل بالذات منذ فترة أبعد بكثير، وهذا يزيد من قيمة المتغير السياسي في المعادلة التوافقية بل ويجعلها عالية جدا بالمقارنة مع قيم المتغيرات الأخرى، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك التحاق ممثلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ سابقا بالمعارضة وقبولهم الجلوس مع الفرقاء على طاولة واحدة للنقاش. هذه الحالة تعد في تقديري وضعا متقدما باتجاه تنسيق العمل لدى الطبقة السياسية وتوحيد فعلها من أن أجل أن تستعيد زمام المبادرة في مجال تقديم أفضل الحلول السياسية وغيرها للمجتمع. قد يطرح البعض مسألة كون السلطة في التجربة الجزائرية إنما هي التي تتحكم في دواليب الدولة وباستطاعتها الدفع بالعمل السياسي الوجهة التي تريد، بل وبإمكانها أن تفكك المعارضة وتجعلها تفقد زمام المبادرة في صياغة رؤية مستقبلية للجزائر قادرة على إقناع الرأي العام الجزائري وتجنيده من حولها، ومن ثم منعها من اكتساب الشرعية والحلول التوافقية القادرة على الدفع بمستقبل البلاد نحو الأفضل. وهذا صحيح في حدود معينة بل هنا يكمن الإشكال الكبير في تجربتنا السياسية الحالية الذي يطرح السؤال الكبير: هل ستدرك هذه السلطة حقيقة أنها ينبغي أن تتحول وتنفتح على المعارضة الحاملة لمشروع إصلاح بعيدا عن تلك الشكلية التي تعيش بانتهازية واضحة على الهامش أم ستبقى تعتقد أنها ينبغي أن تكون المحور وغيرها الأطراف غير الفاعلة، الأصل والبقية ديكورا لديمقراطية شكلية يتم التسوق بها والتسويق لها في الخارج في حدود ما يسمح به قانون القوى الكبرى؟ يبدو لي أنه السؤال المركزي في المرحلة الحالية والذي ينبغي أن نعيد صياغته كالتالي: هل نريد بالفعل بناء ديمقراطية حقيقية مبنية على التوافق أم نريد الاستمرار في فرض منطق الهيمنة الذي تتبناه السلطة؟ هل سندرك أنه لا بديل لنا عن التوافق أم سنبقى نعتقد أن هناك طرفا يملك كل الحقيقة وهو دوما على صواب وطرفا أخار لا يملك سوى الوهم وهو دوما على خطأ؟ لقد بينت التجارب السابقة واللاحقة في العالم العربي أنه حيث هيمن الفكر اللاتوافقي الأحادي هيمنت الدكتاتورية وتقلصت الحريات وتم الزج بآلاف الناس في السجون والمعتقلات بحجة الحفاظ على الدولة، وتسبب ذلك في صراعات دموية غير محدودة تحولت إلى أشكال وألوان من الإرهاب المتحالف مع كل شيطان... أما حيث ساد الفكر التوافقي بين كل الفرقاء وأقنع الجميع أنفسهم بأن زمن فرض الرأي الواحد بالقوة أو بالاستقواء بالغير قد ولى، حيث سادت التنازلات من قبل الجميع سلطة ومعارضة وتم إيجاد مخارج للأزمات... تم تجنيب الدول والمجتمعات الدخول في صراعات لا أول ولا آخر لها هي في غنى عنها. ولعل ذلك ما جعلنا اليوم نرى دولا زجت بنفسها في طريق مسدود بحجة الحفاظ على الدولة (العراق، مصر، سورية، ليبيا، اليمن) في حين اختارت دول أخرى الأسلوب التوافقي في الحكم فبقيت ضمن الناجين وهي تتقدم نحو بناء ديمقراطية حقيقة تستعيد معها الشرعية الشعبية بالتدريج لتنتقل فيما بعد إلى بناء الدولة على أسس عصرية وقوية تستطيع الصمود في وجه التهديدات المتعددة التي أصبحت تعيشها، وخير نموذج على ذلك التجربة التونسية التي هي الآن تستعد للانتقال إلى مرحلة أعلى من مراحل البناء الديمقراطي بأدنى الخسائر الممكنة. ولعل الجزائر، بما تملك من رصيد توافقي، في مجال إشراك المعارضة في السلطة وخاصة الإسلامية منها، هي الأقدر اليوم لتكون النموذج المستقبلي لبقية الشعوب المحيطة بها، إذا ما أرادت ذلك، بعيدا عن كل تشنج أو تمسك فردي بالسلطة أو دفع نحو انسدادات تعيدنا عقودا إلى الوراء. يُطرح اليوم الحل التوافقي بكل قوة، وينبغي أن ينجح، وأن يندرج فيه الجميع. ليس من مصلحة السلطة اليوم باعتبارها تقود زمام المبادرة، وليس من مصلحة المعارضة باعتبارها تسعى للتوافق بينها، أن يمتنعا على إيجاد حلول توافقية بشأن رؤية مشتركة للمستقبل في مجالات التعليم والصحة والبناء والسكن والشغل والحفاظ على الثروة الوطنية من الاندثار ومحاربة الفساد محاربة حقيقية، وبعدها لكل حدث حديث... لقد ولى زمن يمكن لطرف واحد أن يحكم ويأمر وعلى الباقي أن يطيع، وأصبحنا في زمن يخيرنا بين أن نتوافق أو مصيرنا التناحر والفناء كما تفعل بعض الشعوب بنفسها اليوم أكثر مما فعل بها أعداؤها عبر التاريخ. إن التوافق لا بد أن يكون خيارا استراتيجيا بكل المقاييس.