مرة أخرى نحن على وشك إضاعة فرصة أخرى لتحقيق إجماع وطني آمن، يساعد البلد على الإفلات من حالة الجمود، وتجنيد طاقاته الحية لحل أزماته المزمنة، ومواجهة التهديدات المتربصة به، لأن جانبا من المعارضة يراهن على الحلول السحرية، بتحقيق التغيير عبر الإقصاء الطوعي لمن بيده السلطة، وسلطة تراهن على تأمين "حالة الجمود" بسلوك يحاكي فعل القردة الثلاث: لا أسمع، لا أرى، لا أنطق. اختارت ثلة من أعضاء "التنسيقية الوطنية للحريات والانتقال الديمقراطي" مناسبة الذكرى الستين لثورة التحرير، لإصدار بيان للشعب، تدعوه فيه إلى الالتفاف حول خيار "الانتقال الديمقراطي" على اعتبار أنه "لا يمكن أن يكون للانتقال الديمقراطي معنى ولا بعدٌ إلا إذا اقتنع الشعب بعدالته، وبصدق نوايا المنادين به" وقد خيّر البيان عموم المواطنين بين خيارين اثنين: "إما التشبث بالانسداد السياسي الحالي، أو التجند من أجل هبّة منقذة للمحافظة على الانسجام والوحدة الوطنية". نص البيان وتوقيت إصداره يكشفان بلا ريب حالة اليأس وحجم الإحباط عند بعض قيادات المعارضة، وانسداد السبل أمام توصيل رسائل المعارضة للمواطنين حول حاجة البلاد إلى الخروج من الانسداد السياسي، عبر قبول السلطة بمرحلة انتقالية، لا يعلم أحدٌ كيف يمكن إخراجها للواقع، مع رفض جانب من المعارضة لمبادرة جبهة القوى الاشتراكية حول الإجماع الوطني، ووصفها بالمناورة التي تخدم رغبة السلطة في القفز على استحقاقات الانتقال الديمقراطي. الدعوة الموجهة لعموم الشعب لدعم مسار التغيير، كما دُعي منذ ستين سنة لدعم خيار الكفاح المسلح، تحمل أكثر من رسالة مبطنة لعل أهمها اعتراف الموقعين على البيان بالفشل كقوى سياسية معارضة، اشتغلت تحت الشرعية منذ ربع قرن، وشارك بعضها في جميع الاستحقاقات السياسية منذ بداية التعددية السياسية، وكان جزءاً من منظومة الحكم في البرلمان، وبعضها في التحالف الرئاسي والحكومي، فيما ينحدر كثيرٌ من الزعامات المنخرطة اليوم في نشاط التنسيقية من جيوب الدولة العميقة، وقاد الحكومة لسنوات، في فترات كانت البلد فيها تعيش ما تعيشه اليوم وأكثر؛ فقد كانت حمس جزءاً من النظام، شاركت في المراحل الانتقالية التي أعقبت توقيف المسار الانتخابي، واستفادت قياداتها من ريع المشاركة لأكثر من عقد من الزمن، وليس بين الموقعين على البيان من لم يذق عسيلة السلطة من قريب أو من بعيد. ثم أن المعارضة كانت شريكاً في إنتاج حالة الانسداد، وقد أساءت تشخيصها حين ربطتها بإصرار النظام على دعم العهدة الرابعة، وكأنّ البلد كان سيخرج من حالة الانسداد في اللحظة التي يعلن فيها الرئيس عزوفه عن طلب عهدة رابعة، ولم تقترب المعارضة لا من قريب ولا من بعيد من التشخيص الموضوعي لأزمات البلاد السياسية، ومن المعوقات الحقيقية التي تمنع بلدا، له ما للجزائر من مقدرات، من تحقيق الانطلاقة الاقتصادية، أو على الأقل من معالجة أزمات البطالة، وتردّي منظومتي التعليم والصحة، وتطويق جغرافية الفقر بتوزيع للثروة أكثر عدلا، وتوظيف جزء من الفائض المالي في تنشيط الحياة الاقتصادية. ثم إن مكونات هذه المعارضة لم تكن على قلب رجل واحد، لا حيال مفردات فتنة التسعينيات، التي فجّرها الاقتراب المبتذل من مسار التعددية السياسية، ولا في التعامل مع جمل الوفاق والسِّلم، الذي استعاد للبلاد قدرا من الأمن والاستقرار والتوازن، حتى نثق اليوم بحقيقة وجدية التوافق بين مكونات الإسلام السياسي، وأحزاب وشخصيات قادمة من رحم الفكر الاستئصالي، أو يعوّل عليها، وهي تسارع إلى ضرب وتصفية مبكرة لمبادرة جبهة القوى الاشتراكية، شريكتها في التنسيقية، واتهامها بالمقاولة من الباطن لصالح السلطة، لا لشيء سوى أنها دعت إلى البحث الجاد والعقلاني عن إجماع وطني بشراكة مع النظام وليس ضد النظام، وهو عين العقل عند من تابع مآلات الربيع العربي، والأسباب الحقيقية التي كانت وراء فشل القوى الثورية والمعارضة في تحقيق الانتقال الديمقراطي، حتى حين مُكّنَت من ترحيل الأحصنة النافقة. بكل أمانة، ومن دون أدنى تحيز أو تحامل على المعارضة، لم أستوعب كيف يمكن للمعارضة أن تقنع القوى الماسكة بالسلطة، المنتفعة من ريعها بقبول الرحيل الطوعي، وتسليم السلطة للمعارضة لقيادة مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية، يقول دعاتها إنها سوف تجنب البلد تبعات التغيير بقوة الشارع السلمي أو المسلح، علماً أن بعض مكونات المعارضة قد حاول وفشل في تحريك الشارع، وحاول وفشل في تحقيق التغيير عبر المسارات الانتخابية، وكان يفترض أن يصل إلى نفس الاستنتاج الذي اهتدت إليه جبهة القوى الاشتراكية وثمّنه السيد مولود حمروش، بل وأضاف إليه شرط استدعاء مؤسسة الجيش الوطني الشعبي كقوة ضامنة للإجماع. من المؤكد أن النظام الجزائري، الذي لم تسقطه عشرية كاملة من الحرب الأهلية وتسفلها المريع نحو الإرهاب الصرف، مع ضعف الموارد المالية وقتها، وخضوعه لحصار سياسي ودبلوماسي واقتصادي دولي خانق، لم يكن ليسقط كما سقط نظام بن علي بمظاهرة واحدة، ولا حتى التظاهر كما تظاهر النظام المصري بالسقوط، قبل أن يستعيد العسكر زمام الأمور من رئيس منتخب مؤازَر بقوة سياسية منظمة مثل جماعة الإخوان، متوغلة في عمق المجتمع المصري منذ ثمانية عقود، وتحظى لأول مرة بدعم أمريكي غربي لم يكن يمانع توليها قيادة أكبر بلد عربي. وحتى مع التسليم بما واجهه النظام الجزائري من مشاكل في صناعة خليفة مقبول للرئيس، ودخوله في مرحلة معقدة وخطيرة من أجل توحيد رأس القيادة داخل مؤسسة الجيش الوطني الشعبي، فإن النظام استطاع أن يدير مرحلة "شبه فراغ" على رأس الدولة، قد ترتبت عن مرض الرئيس، وما زال يديرها دون عقبات تُذكر، كما واجه بكفاءة محاولات تطويق البلد بأزمات وفوضى السلاح على امتداد حدود البلد الجنوبية والشرقية، وباستثناء العداء الفرنسي التاريخي للجزائر تحت أي نظام كان، فإن النظام قد نجح في إقناع بعض من القوى العظمى، المديرة للفوضى داخل العالم العربي، بحاجتها إلى بلد مستقر، ذي خبرة في مكافحة الإرهاب، لتطويق خروج الفوضى عن الحدود التي رُسمت لها خاصة في شمال إفريقيا، كما سمحت البحبوحة المالية للنظام بتجاهل إملاءات المنظمات المالية العالمية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، التي ما كانت لتسمح للسلطة بتفعيل أدوات شراء السلم الاجتماعي كما حصل في السنوات الأربع الماضية. ربما تكون مثل هذه المعطيات الموضوعية، هي التي أقنعت قيادة جبهة القوى الاشتراكية بواجب البحث عن توافق وإجماع بين المعارضة والسلطة، ليس بالضرورة على ترتيب مرحلة انتقالية كما تريد التنسيقية، بل بتحقيق توافق وإجماع وطنيين على رزمة من الإصلاحات السياسية، تمرَّر عبر تعديل توافقي للدستور، وتوفير ضمانات حقيقية لحق المعارضة في ممارسة نشاطها السياسي دون تعويق إداري، أمني، أو قضائي، يسبق ما يحتاجه أي مسار ديمقراطي من ضمانات قانونية إجرائية تؤمّن استحقاقاته الانتخابية من العبث والتزوير، وهذا التوافق ممتنع وغير قابل للتنفيذ في الصيغة التي اعتمدتها التنسيقية، والتي لا ترفض فقط الدخول في أي حوار مع السلطة، بل تستبطن فكرة "الترحيل الطوعي" الخرافية، وتسليم النظام مفاتيح السلطة للمعارضة على طريقة "المفتاح باليد". ثم إن التنسيقية لم تتجاهل فقط السلطة السياسية، ممثلة في الرئيس والحكومة، بل أخرجت من حساباتها معظم المؤسسات الفاعلة، الماسكة بتلابيب الدولة العميقة، مثل مؤسسة الجيش، والمؤسسات الأمنية، ناهيك عن أذرع النظام وملحقات الدولة العميقة في أحزاب السلطة، والنقابات، وتنظيمات المجتمع المدني، التي لم تقترب منها التنسيقية ولو من باب جس النبض، واستشراف الموقف. كما أن التنسيقية، التي أنفقت كثيرا من الوقت والجهد في تجميع شتاتها حول طاولة واحدة، لم تبذل أدنى جهد بيداغوجي في اتجاه المواطن، ومحاولة إقناعه ببرنامج التغيير الديمقراطي المقترح، بل لم تقترب حتى من أدوات صناعة الرأي في الإعلام الوطني، من أجل إيصال رسالة واضحة للمواطن، تحدّد الأهداف، وتقترح الوسائل والسبل الآمنة لتحقيق التغيير خارج الشراكة مع السلطة.
لا شك عندي أن ما سوف يوصف لاحقا ب"نداء نوفمبر" من باب التيمّن ليس إلا، لن يزيد نشاط التنسيقية إلا خبالا، وقد جاء كفعل ناسخ معطِّل لمبادرة حزب عريق له ماض نضالي محترم مثل الأفافاس، كان يعول عليه لتوثيق شراكة ما يسمى بالقطب الديمقراطي في مسعى المعارضة، كما سيفقد بالضرورة خدمات شخصية وطنية ذات وزن مثل السيد مولود حمروش، يمتلك خطابا عقلانيا معتدلا ومسموعا داخل أوساط فاعلة في أروقة صناعة القرار داخل النظام، ولن يكون لهذا النداء من صدى عند الجمهور، سوى ما حمل من اعتراف ضمني بفشل المعارضة حتى في تحقيق إجماع بين مكوناتها حول سبل التغيير، حتى تطمع في إقناع عامة الشعب بالتحرك خلف دعوة مرتجلة، تبقى مفتوحة على الصدام مع السلطة ومكونات النظام، ما دامت تراهن على التغيير بأدوات الإقصاء، تماما كما يراهن النظام على تأمين الجمود بإقصاء دعاة التغيير.