بعض من تفاصيل الوضع السياسي مثيرة للاستغراب حينا ومثيرة للتعجب أحايين أخرى كثيرة. بعض الوقائع وبعض مكونات الصورة كما يرسمها الإعلام، أو على الأقل بعض التأويلات والتقديرات، تظهر لنا أن هناك حركة سياسية هي حركة مجتمع السلم (حمس) ظلت مشاركة في الحكم لمدة فاقت العشرين سنة، وها نحن نراها اليوم تتبنى خطابا مطالبيا بل وخطابا حادا في تصور الحل. وهناك حركة سياسية أخرى هي جبهة القوى الاشتراكية ظلت في المعارضة لمدة زمنية تصل إلى نصف قرن، بل اعتبرت أحيانا ”المعارضة” وظلت تتبنى خطابا لا يعترف بشرعية الحكم ويطالب بشكل مستمر بمجلس تأسيسي، وها نحن اليوم نراها تعدل في خطابها فتدعو إلى إجماع وطني بدل المجلس التأسيسي وتسعى بدلا من المعارضة الحادة، بل والمقاطعة أحيانا، إلى التواصل مع السلطة وربما العمل معها، من أجل تحقيق هذا الإجماع. بل هناك من القراءات والكتابات من ذهب حد ”تخوين” قيادة الأفافاس ووصفها بأنها صارت تعمل على ”إنقاذ السلطة”. والأغرب في كل هذا أن نرى رئيس حركة مجتمع السلم، التي لم يمض عليها إلا زمن قصير خارج المشاركة في الحكومة، ينتقد بحدة موقف قيادة جبهة القوى الاشتراكية ويوحي أنها تعمل على إفساد جهد ”التنسيقية” التي صارت تعتبر مع هيئة التنسيق والتشاور ”المعارضة” وتطالب بإعلان حالة الشغور في السلطة وقيام حكومة انتقالية. نعم، غريب جدا الأمر، حزب معارض ناضل طويلا من أجل الديمقراطية ومن أجل التغيير ينتهي إلى أن يصبح متهما بأنه ”منقذ السلطة” وحزب آخر كان في الجزء الأكبر من حياته السياسية مساهما في التزوير وفي تبرير التهرب من التغيير وفي إدارة أوصلت الوضع إلى ما وصله، وفجأة تنقلب الأوضاع. من ظل جل حياته السياسية في السلطة صار ”المعارضة” ومن ظل جل حياته السياسية في المعارضة صار ينظر له على أنه مهادن للسلطة أو متآمر معها!! تفسير ذلك قد يتجه إلى احتمالين أساسيين: احتمال أول يقوم على حسن النية: التنظيمان السياسيان قاما بمراجعة سياسية لمواقفهما وأعادا تقدير الموقف وانتهى كل منهما، وفي فترة زمنية واحدة (!!)، إلى خلاصة تقول بضرورة التغيير في مواقفهما. وفي هذا الاحتمال يمكن اعتبار أن تحرك الأفافاس، وهو من السباقين إلى فكرة التوافق السياسي والإجماع الوطني، يأتي في إطار إدارته السياسية ومحاولة استعادة المبادرة وعدم ترك الساحة ل ”التنسيقية” ول ”التنسيق والتشاور”. وفي حالة حمس يمكن أن بعضا من نخبتها، التي يقال أنها كانت تعارض المشاركة في الحكومة أو استمرار المشاركة في الحكومة لمدة طويلة، صار لها الأغلبية في قيادة الحركة. ذلك من جانب حسن النية، ولست أدري إن كان يجد من يقتنع به؟! احتمال ثاني يقوم على تقديرات سياسية، وهو أن هذا التلازم الزمني في تغيير المواقف أو تعديلها قد ينبع من وجود إدارة سياسية واحدة وأن التغيير قد يكون مجرد تغيير في الأدوار أملاه الظرف السياسي على الذي يدير الوضع. فهل يمكن استغراب ذلك وما مدى جدية مثل هذا الطرح وجدواه؟ مهما يكن يمكن أن نرى في هذه الصورة أيضا، أن معارضة القوى الاشتراكية لم تغير كثيرا من معطيات الوضع السياسي ومن سلوك السلطة وأن مشاركة حمس لم تغير هي الأخرى شيئا يذكر. وهو ما قد يعني أنه لا أهمية تذكر أن تكون في السلطة (طبعا الحكومية فقط) أو في المعارضة ولا فائدة اليوم من تغيير المواقف! في كل الأحوال، فإن خطاب الطرفين يعلن أنه ينشد التغيير والتوافق الوطني وينشد بناء دولة المؤسسات والقانون والانتقال إلى الديمقراطية، وإن كان هذا الموقف، عند أي طرف من الأطراف مجرد مناورة، فإن عمر ذلك سيكون قصيرا. فالقوى الاشتراكية إن كان يناور فمعنى ذلك أنه يقامر برصيده المعنوي قبل الرصيد السياسي، وحمس إن كانت تناور فهي لن تتمكن من ”شراء عذرية جديدة” بل قد يكون مآلها حينها موت سياسي. في كل الأحوال، إن كانت قراءة هذه المؤشرات صحيحة، فهي قد تؤكد أننا ما زلنا في زمن المناورة وأن زمن الحل لم يأت وقد لا يأتي ..إلا بانهيار النظام وكل أدواته وامتداداته.