اشتعلت الساحة السياسية في الآونة الأخيرة "حراكا سياسيا" لم يكن ليحدث إلا في الاستحقاقات السياسية الكبرى. فالكثير من الوجوه السياسية التي اعتادت السبات في الأوقات العادية، عادت إلى الواجهة مفضلة الاصطفاف خلف توجه سياسي، إما مع توجهات السلطة أو ضدها. فهل يؤشر هذا الاستقطاب على شيء ما يطبخ خلف الجدران، أم الأمر يتعلق بحراك عادي فرضته الظروف الداخلية والتحديات الإقليمية التي تحدق بالجزائر.. هذه الأسئلة وأخرى يجيب عليها الملف السياسي لهذا الخميس. عودة "الأموات سياسيا" إلى الواجهة هل هي مؤشرات طبخة تعد خلف الجدران؟ بعد صمت طويل، خرج الرئيس بوتفليقة ليخوض في الحراك السياسي، وهو الذي لم يغب عنه، لكن على ألسنة الساسة المعارضين، الذين صعّدوا من سقف مطالبهم بالدعوة إلى انتخابات رئاسية مسبقة، تزامنت وعودة القاضي الأول من الرحلة العلاجية بفرنسا. الرئيس بوتفليقة ومن خلال الرسالة التي قرأها مستشاره الخاص، محمد علي بوغازي في المنتدى الذي احتضنه مقر المجلس الدستوري، بحر هذا الأسبوع، أراد التأكيد على أن مشروع الدستور لايزال يشكل أولوية بالنسبة إليه، وأن تأخر طرحه له علاقة بحرصه على إنجاز الوعد الذي أطلقه بعد انتخابه لعهدة رابعة، وهو "الدستور التوافقي". ولم تكن "خرجة" الرئيس الأخيرة، برأي متابعين تستهدف إعادة بعث مشروع تعديل الدستور المعطل بدرجة أولى، بقدر ما كانت تستهدف الرد على منتقديه والمشككين في قدرته على إدارة دواليب الدولة، حتى وإن أصر على التوضيح أنه يحرص على "تفادي التسرّع والتقليد والارتجال، لأن الجزائر التي عانت الأمرين من ويلات الإرهاب، ترفض أي مغامرة من هذا القبيل..". وبات الرئيس بوتفليقة يدرك جيدا، أنه خسر نقاطا لصالح خصومه السياسيين في المعارضة، لأنه لم يتمكن من الوفاء بوعده الذي أطلقه في خطابه الشهير في 15 أفريل 2011، في الشق المتعلق بتعديل الدستور، لأن الجزائريين يدركون تاريخ ميلاد الإعلان عن هذا المشروع، لكنهم، وعلى الرغم من الخرجات الكثيرة لممثلي السلطة، لايزالون يجهلون موعد غلق هذا الملف. وبينما تبرز مبادرة "تنسيقية الانتقال الديمقراطي" التي تنطلق من مطالب تلقى الترحاب عند أطراف داخلية وخارجية مثل الاتحاد الأوروبي وبقية القوى المؤثرة، تبرز مبادرة "الأفافاس" بمثابة كوة في جدار الحصار المطبق على السلطة، لاسيما وأن شعار مشروع "إعادة بناء الإجماع الوطني"، يستهدف جمع السلطة والمعارضة على طاولة حوار واحدة، ما يعني أن هذه المبادرة تلتقي مع الشعار الذي اعتادت السلطة رفعه، لتبرير التأجيل المتكرر للكشف عن موعد الدستور، وهو توافق الجميع على الصيغة النهائية للوثيقة. وبعد أن استهلك كل طرف مبرراته النظرية في إدارة الصراع، يبقى الاحتكام إلى الشارع الآلية الأهم في فصول هذا الجدل، فالجميع اقتنع بأنه يجب رمي الكرة في مرمى المواطن، وانتظار ردة فعله التي سيتحدد على إثرها الخاسر من الرابح. وتكون فصول هذه الحلقة قد بدأت بالفعل مع نهاية الأسبوع المنصرم، الذي شهد تحرك من غاب عن الواجهة لشهور، وهو مؤشر على أن صفارات الإنذار قد أطلقت من قيادة عمليات كل طرف، للانخراط في موجة الاستقطاب السياسي الحاصل، والذي يعني من بين ما يعنيه أن استحقاقا ما بات يطبخ على مستويات معينة، وأن الجدلين السياسي والإعلامي اللذان يطبعان الساحة الوطنية هذه الأيام، ما هما إلا مظاهر لما يحضر في الخفاء.
لمن ستكون الغلبة؟ ساحة واحدة وثلاث مبادرات تعتقد المعارضة وفق منظورها أن البلاد تعيش أزمة سياسية معقدة، وأصل الأزمة موجود في أعلى هرم السلطة، فكان منها الدعوة إلى إجراء رئاسيات مسبقة لجبر الأخطار القادمة، فيما ترى السلطة والتي ترفعت عن الرد وأوعزت ذلك إلى أحزاب الموالاة للتأكيد أن الرئيس خط احمر، ومن يود تغييره، عليه الانتظار 5 سنوات أخرى، وبين الطرفين أطل "الأفافاس" برأسه، مقدما مسعى أشبه ما يكون "تصالحيا". مع التصادم الحاصل بين السلطة والمعارضة من جهة، والمعارضة فيما بينها، قدم كل طرف من الأطراف الثلاثة أوراقه السياسية، لكبح تحركات الطرف الآخر، وان كانت المعارضة المتكتلة حاليا تحت فضاء تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي، سباقة إلى طرح مبادرة سياسية تراها كفيلة بالخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد، فيما تعتقد المعارضة أن الأزمة تعمقت بسبب العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة، هذا التحرك دفع الرئيس للخروج من "حالة الصمت" وإعادة بعث مشروع تعديل الدستور، لكن تبقى طريقته وزمنه وآلياته مجهولة. ومع زيادة منسوب التصادم بين الطرفين، أفرجت تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي، عن خارطتها للمرحلة القادمة والتي تتضمن أربعة أولويات، تبدأ بانتخابات رئاسية مسبقة تحت إشراف هيئة انتخابية مستقلة، ثم تعديل الدستور وإجراء انتخابات تشريعية ومحلية بعد ذلك. وارتكزت "مبادرة" السلطة إن صح التعبير، على مسألة واحدة هي تعديل الدستور، لكن الكثير من الضبابية يحوم حول الشكل والطريقة التي يريد بها الرئيس بوتفليقة تعديل أسمى وثيقة في البلاد، خاصة وانه يتعامل مع الملف ب"التقطير"، رغم انه كان السباق للقول إن الدستور الذي ورثه من سلفه الرئيس اليامين زروال "لا يعجبه"، لكن استمر بالعمل به طيلة 15 سنة من فترة حكمه، مع بعض التعديلات، أولها دسترة الأمازيغية سنة 2008، ثم رفع القيود عن العهدات الرئاسية والتي قيل إنها استحدثت لاستمراره في قصر المرادية. وفي ظل "الخصومة" بين الطرفين، وجدت الساحة لاعبا آخر بمبادرة "بيضاء"، تمثلت في إطلاق جبهة القوى الاشتراكية، مبادرة للتقريب بين السلطة ومناوئيها والتي لاقت قبولا لدى الحزب الحاكم والأحزاب المؤيدة له، وباشر الأفافاس سلسلة لقاءات مع مختلف الأحزاب في البلاد وحتى نقابات ومنظمات أهلية لحشد الدعم لمشروع سياسي سماه "ندوة الإجماع الوطني" لتجاوز ما يسميه أزمة سياسية في البلاد، وما يميز مبادرة الأفافاس، انه لم يطرح خلالها أي أفكار أو مقترحات، وذكر انه يقدم "ورقة بيضاء" تدون من خلالها كل الأطياف في الساحة الوطنية آراءها ورؤاها، وفيما نال الأفافاس ثناء الحزب العتيد الذي يعد واجهة السلطة الأولى، اتهم من العارضة ب"الخيانة"، وهي أول تهمة من هذا الصنف تكال له بعد أزيد من 50 سنة من التأسيس.
الأمين العام للتحالف الوطني الجمهوري بلقاسم ساحلي ل "الشروق": المعارضة تستقوي بالخارج والحراك من تبعات ما بعد الرئاسيات اعتبر الأمين العام لحزب التحالف الوطني الجمهوري بلقاسم ساحلي، أن الحراك السياسي الذي تشهده الساحة هذه الأيام، ايجابي جدا، وجاء كنتيجة طبيعية لتبعات ما قبل وما بعد الرئاسيات السابقة، وعودة الحديث بقوة عن مصير مشاورات تعديل الدستور، وبالمقابل فتح النار على المعارضة التي وصفها بالإقصاء والاحتكار والاستقواء بالخارج. عاد الحراك السياسي بشكل لفت، لماذا في رأيكم؟ هذا الحراك السياسي هو نتيجة طبيعية لتبعات ما قبل وما بعد رئاسيات أفريل الماضي، وخاصة من جانب المعارضة، كما أن المواقف المتنوعة في الساحة نتج عنها هذا الحراك المكثف، حيث أن جزءا من هذا الحراك وراء المعارضة وهي تقوم بذلك بفعل دورها الطبيعي، وجزءا آخر وراءه أحزاب الموالاة ورئيس الجمهورية الذي فتح ورشة تتعلق بالمشاورات السياسية حول مشروع تعديل الدستور الذي نقيمه من حيث المضمون، فهو وثيقة هامة جدا لتحقيق التوازن بين سلطات الحكام وحقوق وحريات المحكومين. وهذا الحراك نعتبره ايجابي جدا، لكن لدينا تحفظات على المعارضة وتحركاتها، ونقصد بها مبادرة تنسيقية الانتقال الديمقراطي التي لا ينبغي لها أن تبنى على الإقصاء والاحتكار، والدليل على ذلك اجتماع زرالدة، حيث لم ترسل أرضية مطالبها لا إلى السلطة ولا إلى أحزاب الموالاة. لأول مرة يحدث استقطاب سياسي بهذا الشكل، ماذا يخفي ذلك، وهل هو تطور طبيعي لمسار سياسي، أم للسلطة دور فيه؟ ما تشهده الساحة الوطنية حاليا مؤشر على تطور الممارسة السياسية في بلادنا، ونحن كحزب لا يزعجنا، لقاء الأحزاب السياسية شيء طبيعي سواء بالنسبة لأحزاب الموالاة أو المعارضة، ويبقى الفيصل هو الشعب والصندوق، غير أنه لا ينبغي بالمقابل أن نطعن في شرعية مؤسسات الجمهورية، واعتقد أن السلطة دورها هو ممارسة مهامها ولديها أحزاب تساندها ومن الطبيعي أن تكون هناك أحزاب لديها توجه معارض للسلطة، وهي ثنائية عادية جدا وموجودة في كل البلدان الديمقراطية على غرار فرنسا وأمريكا، وهذا الاستقطاب أمر طبيعي ولا يقلقنا إطلاقا كطرف سياسي. هل مشاورات وفد الاتحاد الأوروبي مع الفعاليات السياسية تدخل في الشأن الداخلي؟ نحن نعتبر المشكل ليس مع الاتحاد الأوروبي، بل نتوجس من توقيت وظروف هذه الزيارة التي نصنفها في العرف الدبلوماسي ب"حدود التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد"، ونحن نتعجب كيف لأطراف المعارضة، ونعني تنسيقية الانتقال الديمقراطي وقطب التغيير، يصرحون بأنهم قدموا نسخة من أرضية المطالب لوفد الاتحاد الأوروبي، وهل من المعقول أن لا تسلم هذه المعارضة مطالبها لأحزاب السلطة، لذلك فإن ما قامت به المعارضة هو محاولة للاستقواء بأطراف خارجية، وهذا ليس جديدا عليها، حيث تعود إلى التسعينيات ومنها ما حدث في "سانت ايجيديو"، وما تزامن مع "الربيع العربي"، حيث قفزت أحزاب من السلطة إلى المعارضة، وكانت تطمح أن تعيدها رياح الربيع العربي إلى السلطة، وقد استقوى البعض بفرنسا وآخر بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبعض الآخر بدول المشرق، نحن دعوتنا أن تطرح المعارضة نقاشها وأرضية مطالبها داخل اللحمة الوطنية وليس عرضها على الخارج. رئيس حزب جيل جديد.. جيلالي سفيان ل "الشروق": لقاء المعارضة بالاتحاد الأوروبي ليس تدخلا.. وللجزائر سوابق مع المعارضة الفرنسية يؤكد رئيس "حزب جيل جديد" جيلالي سفيان في هذا الحوار مع "الشروق"، أنه لا يوجد استقطاب سياسي في الجزائر، لأن المعارضة هي من يقوم بحراك سياسي حقيقي وفعلي، وما تقوم به السلطة مجرد رد فعل على ما بادرت به التنسيقية، واعتبر لقاءات الاتحاد الأوروبي مع الطبقة السياسية اعتراف بمستوى تمثيلها وليس تدخلا في الشأن الداخلي للجزائر. عاد الحراك بشكل لافت إلى الواجهة مؤخرا، لماذا برأيكم؟ الحراك السياسي الحقيقي والفعلي هو الذي تقوم به المعارضة، والسلطة تحركت من منطلق رد الفعل على ما قامت به أحزاب المعارضة، حيث جاء تحركها بصورة مناورة مع الأفافاس رغم أنهم لم يرغبوا في الخروج بصراحة والإعلان عن نواياهم، حيث أرادوا أن يجروا الأفافاس معهم. السلطة تحركت أيضا، لأنها رأت رد فعل المعارضة القوي جدا فحاولوا كسر التنسيقية التي صار لها مطلب جد واضح وقوي وهو شغور منصب رئيس الجمهورية، ونحن من الآن نطالب بميكانيزمات لتنظيم رئاسيات نزيهة وشفافة. وفضلا عن هذا، فقد حاولت السلطة الرد عبر قضية تعديل الدستور التي لم تجد الصدى اللازم، والتخوف الآن صار في معاقل السلطة. بات واضحا أن هناك استقطابا حادا بين الفاعلين السياسيين، هل هذا مجرد تطور طبيعي، أم أن للسلطة دورا فيه، بمعنى هل نجحت السلطة في تشتيت الطبقة السياسية؟ بالعكس، أنا اعتقد أن المعارضة قد عملت على لم شملها في الفترة الأخيرة، والتفت حول مطالب موحدة وأرضية مزفران وهيئة التشاور وغيرها، ولذلك فالسلطة أبدا لم تنجح في هذا المسعى، والملاحظ هو أن أحزاب الموالاة هي التي لا تستطيع التوحد، لأن من يجمعها هو السلطة والمصالح، وخاصة أن أمامها حاجز كبير وهو مرض الرئيس، ولذلك نرى مناورات متكررة لتكسير التنسيقية. لأول مرة يحدث استقطاب بهذا الشكل، ما هي الرسائل السياسية التي يمكن قراءتها من ذلك؟ نشهد حاليا انهيارا ولو ببطء للنظام الحالي الذي لم يعد يجلب اهتمام الرأي العام ولم يعد يحظى بالإجماع، والمجتمع الجزائري له رغبة كبيرة في التغيير ولو بقليل من التردد، فهو متخوف من الدخول في مغامرة ويريد ضمانات من المعارضة، وهذا يتطلب القليل من الوقت، ومن الطبيعي جدا أن يراقب المجتمع مسار الأحداث في البلاد. هل تعتبرون مشاورات الاتحاد الأوروبي مع الطبقة السياسية تدخلا في الشأن الداخلي؟ اللقاءات مع ممثلي الاتحاد الأوروبي تمت في إطار اتفاق الشراكة وهي مكتوبة ومدونة في الاتفاق، وإضافة لذلك فاللقاءات تمت جهارا نهارا على أرض جزائرية وليس في السر والكتمان. وأعتقد أن الاتحاد الأوروبي قد بعث برسالة جد قوية للنظام الجزائري من خلال هذه اللقاءات، والرسالة مفادها كما يقال بالعامية "سڤّم أحوالك"، ويجب أن يكون هناك رئيس قادر على تسيير البلاد، ومسؤولون على قدر المسؤولية، ومفادها أيضا أن الجزائر شريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي ويجب الكف عن هذا العبث. وأضيف هنا أن هذه اللقاءات تعتبر أيضا اعتراف صريح بالمعارضة الجزائرية، ولأول مرة نصل إلى هذا المستوى من التمثيل. ولكن بالمقابل هل ستقبل فرنسا مثلا أن تتحاور الجزائر مع أطراف فرنسية معارضة؟ لا، لا أعتقد أن فرنسا ستعترض، والجزائر كما هو متعارف كرست بتجارب سابقة للتشاور مع اليمين أو اليسار الفرنسي.