قال الله تعالى: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) (البقرة، 256). إنّ حرية الاعتقاد تعني حرية الاختيار في أن يتبنّى الإنسان من المفاهيم والأفكار ما ينتهي إليه بالتفكير، أو ما يصل إليه بأي وسيلة أخرى من وسائل البلاغ، فتصبح معتقدات له، يؤمن بها على أنها هي الحق، ويكيّف حياته النظرية والسلوكية وفقها، دون أن يتعرض بسبب ذلك للاضطهاد أو التمييز أو التحقير، ودون أن يكره بأي طريقة من طرق الإكراه على ترك معتقداته، أو تبني معتقدات أخرى مخالفة لها. لقد كان الإسلام في هذه القضية المصيرية صريحا غاية الصراحة، واضحا غاية الوضوح، فهو دين الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، فلا مجال فيه لإكراه، أو قسر على رأي أو معتقد. يقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله تعالى: "في هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه، فيما يختص بالهُدى والضلال، وفي الاعتقاد وتحميله تبعة عمله، وحساب نفسه، وهذه هي أخص خصائص التصوّر الإنساني". إنّ حرية الاعتقاد هي أوّل حقوق الإنسان، التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء، ومع حرية الاعتقاد، حرية الدعوة والعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. إنّ الإسلام وحده الذي ضمن حرية التدين للمخالفين نصا وديانة، فالدين نفسه يأمر أتباعه أن يتركوا الناس وما يدينون، ولذلك يعتبر الدين الإسلامي ضمانة اعتقادية وعملية لحرية الأديان المختلفة، إذ ليس من المعقول أنّ الإسلام يستنكر على الذين يقهرون الناس ويصادرون حريتهم، ثم يعمد إلى قهر الناس وسلبهم حرياتهم. إن التاريخ الإسلامي على سعته وامتداده لم يعرف إكراها في الدين، فلقد دخل الشرق بالفتوحات الإسلامية خلال سنوات قياسية في تاريخ الفتوحات، إذ فتح المسلمون في ثمانين سنة أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون، ولقد كانت هذه الفتوحات الإسلامية تحريرا للشرق -الإنسان والأرض- من القهر الديني والحضاري الذي مارسه الرومان والفرس ضد شعوب الشرق على امتداد عشرة قرون.