يقول الله تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) المائدة: 16/ 15. هذه هي حقيقة القرآن كما نطق بها القرآن نفسه. لقد كان نزول القرآن ولا يزال أعظم حدث في تاريخ الدنيا، وكان من أعظم آثاره في الوجود أن حوّل أمة من الأجلاف الذين كانوا يعيشون على هامش الحياة يخوضون حربا ربما تمتد إلى عشرات السنين من أجل ناقة، أو عين ماء يختصرون كل معاني الحياة في الاستئثار بها. نزل القرآن على تلك النفوس القاسية قساوة البادية التي كانت تضمها نزول الغيث على الأرض الجديبة الخاشعة فأحيا مواتها، وقوم عوجها، واستثار مكامن الخير المدفونة فيها، فانطلق حملة النور بهذا القرآن يغرسون في جنبات الكون أزاهير الفضيلة والطهر والعفاف، ويتعقبون بأقباس الفجر التي يحملون فلول الظلام المنهزم، وبنوا حضارة باذخة علمت البشرية معاني العدل والرحمة والقوة في غير ما غطرسة ولا صلف في صلة عجيبة بين الأرض والسماء، فكان الناس في بعض مجاهل الأرض البعيدة يدخلون في دين الله أفواجا من غير فتح ولا جهاد ولكنها أخلاق التجار والدعاة الذين تشربوا معاني القرآن فأحسنوا عرضها على الناس. تلك بعض معجزات القرآن وتلك بعض من خيوط نوره كما سجلها التاريخ. فما هي قصتنا مع القرآن وهو نفسه الذي قرأه أسلافنا فكانوا به ضربا من الأساطير. الحقيقة ونحن في شهر رمضان وهو شهر القرآن أقول وعبرة المحزون تخنقني إن أمة القرآن كدرت الصفو، وانحرفت بها شياطين الإنس والجن عبر هذا التاريخ الطويل من عمرها عن مصدر حياتها وينبوع عزها، وصدقت وساوسهم بأنها يمكن أن يكون لها مكان تحت عين الشمس إذا شردت عن القرآن. إنني أرمق بعين حزينة في هذه الليالي المباركة جماهير كثيفة من الناس قد سرت في دمائها جراثيم تدين مغشوش وهي تذرع الأرض جريا وراء القارئ المطرب، ولكن ليس وراء تلك المظاهر الزائفة شيء من خلق القرآن ولا سمته أو هديه، ولكنه التأوه والطرب للصوت، ثم الرضا بالعيش في ذيل القافلة. يقول صاحب المعالم - رحمه الله _ : "لقد انتصر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم صاغ من فكرة القرآن شخوصا، وحول إيمانهم بالإسلام عملا، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفا، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف القلوب.