يروى -والعهدة على الراوي- أن المفكر المصري الكبير فهمي هويدي قال ذات مرة، إن بإمكانه كراصد ومحلل ومفكر، أن يقدم بحوثا نظرية محترمة في شتى المواضيع السياسية المطروحة عليه، لكن عندما يصل إلى الموضوع الجزائري، يعسر عليه البحث عن الحقيقة، ويشعر في قرارة نفسه أنه تحول إلى أمّيٍّ لا يعرف القراءة والكتابة!! * وتساءلت: إذا كان عذر هذا الرجل وأمثاله، هو بعده عن البيئة السياسية التي يحاول فهمها، فهل يمكن لنا نحن أبناء هذه البيئة، والأقرب إلى مصادر صنعها، أن نفهم دقائقها وننظم مقدماتها ونستخلص نتائجها في نسق يكون أقرب إلى المنطق والصّواب؟ * أنا شخصيا، أريد أن أعترف، أنه كثيرا ما أجد نفسي وأنا أحاول الفهم أمام ما يشبه المعادلات الرياضية المعقدة التي تحتاج إلى مخّ "انشتاين" لفهم طلاسمها والوصول إلى حلها الصحيح. * بوتفليقة والحكومة * قبل يومين، قضيت نصف ليلة، وأنا أحاول فهم حقيقة العلاقة التي تربط رئيس الجمهورية بالحكومة، وكنت في منتهى التعب عندما قطعت رحلة البحث عن حقيقة هذه العلاقة، وتوقفت عن التحليل والتأويل واختراع الممكن والمحتمل.. وإليكم بعض الذي أتعبني فهمه: * في 2 فيفري من هذه السنة المبروكة، قال وزير الداخلية سابقا نور الدين زرهوني في رد حاسم على الذين أعادوا الحديث عن رفع حالة الطوارئ بعد نجاح ثورة تونس "إن حالة الطوارئ لن ترفع في الجزائر" وفهم الجميع أن هذا الموقف، هو تعبير عن رغبة فوقية، أراد تمريرها الرئيس الصامت عن طريق وزير داخليته، لكن وبعد أقل من 24 ساعة فقط، قرر رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء، رفع حالة الطوارئ، وأعطى توجيهات صارمة في هذا الاتجاه. * وقبل ثلاثة أسابيع فقط قال وزير الداخلية الحالي دحو ولد قابلية إن وزارته لا تعتزم إجراء مشاورات مع الأحزاب السياسية حول الإصلاحات السياسية التي أطلقها رئيس الجمهورية، لكن الرئيس وقبل أسبوع فقط، قرر تكليف عبد القادر بن صالح بإجراء التشاور مع الأحزاب السياسية حول الإصلاحات المقرر إجراؤها. * والأدهى من كل هذا أن أقرب المقربين من الرئيس (أويحيى وبلخادم) ظلا منذ مطلع هذا العام، ينفيان وجود أزمة سياسية في الجزائر، ويصفان الحركات الاحتجاجية بالغليان الاجتماعي الذي لا علاقة له بالسياسة، بيد أن الإصلاحات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية جاءت سياسية بامتياز ولا علاقة لها بالجبهة الاجتماعية!! * فهل يستطيع أحد من الإنس أو الجن، أن يفسر لي حقيقة هذا التناقض بين الرئيس ورجاله المقربين الذين من المفروض أن يكونوا أكثر انسجاما مع مواقفه إن لم يكونوا ناطقين رسميين باسمه؟ * هل هذا معناه أن الدولة تحولت من دولة الحزب الواحد إلى دولة الرجل الواحد الذي لا شريك له، وتحول بالتالي الوزراء ورئيس الوزراء إلى مجرد موظفين يفعلون ما يؤمرون؟ أم أن الرئيس فقد الثقة في هؤلاء جميعا بعد أن اكتشف كذبهم عليه، وقرر فعل ما يدور في دماغه دون الرجوع إليهم أو مشاورتهم؟ أم أن هذا الرئيس أصبح من صنف الذين يوحى إليهم، وهو بذلك في غنى عن مشاورة البشر والاستئناس برأيهم؟ أو هو منطق الوصاية الأبوية المبالغ فيه إلى الدرجة التي تجعل الأولاد في عين أبيهم "ذراري" لا يعرفون شيئا حتى وإن تجاوزوا الخمسين؟! * أنا شخصيا "ما فهمت فيها والو" وأصبحت مقتنعا بمذهب الأحناف الذين يرون أن الصمت وراء الإمام عبادة على عكس المالكية الذين يرون أن قراءة الفاتحة وراء الإمام واجبة، لكن السؤال الذي سيظل يؤرقني، هو لماذا يحتفظ بوتفليقة بحكومة، هو ينسخ أقوالها، ويمشي في اتجاهها المعاكس؟ ولماذا لا تستحي الحكومة من وجودها المهدور في اتخاذ القرار وتوشحها بالضباب في كل شيء؟ * هل يصلح بن صالح للإصلاح؟ * بصرف النظر عما يتحدث عنه البعض من خرق للمادة 105 من الدستور التي تمنع النائب وعضو مجلس الأمة من ممارسة مهام أخرى، إلا أن تكليف بن صالح بمهمة إدارة المشاورات حول الإصلاحات السياسية، أشار في قرارة نفسي تساؤلات كثيرة من قبيل: لماذا بن صالح بالذّات؟ هل لأنه كما يقول البعض قطعة الغيار المناسبة كلما احتاج صناع القرار إلى صيانة أي عطب يقع في محرك "السيستام"؟ أم أن الرئيس كان بحاجة مثلما يقول البعض الآخر إلى رجال ضعفاء يفعلون ما يريد الرئيس لا ما ينبغي أن يفعل حتى لو كان ضد إرادة الرئيس؟ * أنا شخصيا لا أعرف الرجل، ولم أره وجها لوجه إلا مرة واحدة يوم كان مديرا لجريدة الشعب في عهد الحزب الواحد، لكن من حقي كمواطن أن أتساءل: هل عقرت أرحام الجزائريات، ولم تعد تلد من يستطيع أن يقوم بهذه المهمة؟ أم أن خبرة الرجل بعد استقالته من حزب جبهة التحرير والتحاقه بالأرندي هي التي ستؤهله في نظر بوتفليقة لإنجاز هذه المهمة الصعبة؟ أم أن منطق "اللّعاب احميدة والرشّام احميدة" هو الذي فرض بن صالح ليصل في النهاية إلى ما وصلت إليه اللجنة التي تولت تعديل الدستور في عهد الرئيس زروال 1996؟ وإذا كان بن صالح من أبرز مؤسسي حزب الأرندي الذي ولد كما قال الشيخ نحناح ب "شلاغمه"، أليس من المفترض أن يكون بن صالح في هذه الحالة متهما بتزوير الانتخابات التي وصل فيها حزبه إلى الأغلبية البرلمانية وعمره لم يتجاز ثلاثة أشهر أو هكذا يفترض على الأقل؟ ولماذا لم يقم الرئيس بنفسه بالإشراف على المشاورات ورعايتها شخصيا؟ هل لأنه فوق هذا، وبالتالي اختار لها من هو أدنى منه؟ أم هناك أسباب خفية لا يعرفها الشعب؟ * أكرر أنني "ما فمت فيها والو" أعلن انسحابي من أي محاولة للفهم، لأني لن أمسك منها إلا كما تمسك الماء الغرابيل!!