بقلم: محمد الهادي الحسني أقصد بالسكن الدولة وهياكلها ومؤسساتها؛ وأعني الوطن الأمة وروحها ومقوماتها، وأخلاقها. لا مِرْيَة في أن أي هيكل سياسي أو إداري مهما يكن متينا وقويا لا يمكنه أن يصمد في وجه زلازل التاريخ، ولا يستطيع أن يثبت أمام تقلبات الزمان، إن كان ذلك الهيكل خاليا من الروح، التي هي خصائص الأمة ومقوماتها. من أجل ذلك نرى الشعوب والأمم الحية لا تكتفي بإنشاء هياكل دولها ومؤسساتها السياسية والإدارية؛ بل تحرص قبل ذلك وفي أثنائه وبعده على أن تقيم تلك الهياكل والمؤسسات على مبادئ مستمدة من روحها وخصائصها. لقد حدثنا التاريخ أن الدول يمكن أن تنهار بسبب فتن داخلية أو عوامل خارجية، وحدّثنا التاديخ أيضا أن الشعوب تستطيع استعادة دولها، وتجاوز محنها إن هي حافظت على روحها ومقوماتها، واستمسكت بها. وإن أقرب مثل يُضرب في هذا الشأن هو هذه الدولة اليهودية التي مُحيت من الوجود قرونا طويلة، ولكن اليهود الذين استطاعوا المحافظة على الروح اليهودية وتمكنوا بفضلها، وباستغلال المناسبة وافْتِرَاصِ الفرصة، أن يعيدوا تأسيس دولتهم، والشيء نفسه يقال عن الشعب الجزائري الذي محيت دولته ومؤسساته السياسية والإدارية أكثر من قرن وثلث؛ ولكن هذا الشعب تمكن بمحافظته على مقوماته من دين، ولغة، وشعور مشترك بين أبنائه أن يتجاوز المحنة، وأن يصمد أمام الشدة، وأن يحرر أرضه، ويستعيد دولته. لقد سقطت الدولة الجزائرية في 5 / 7 / 1830، وانهارت مؤسساتها، وألغيت هياكلها، واندحر جيشها، ولكن الشعب الجزائري هبّ في جميع مناطقه - مدفوعا بمقوماته - يجاهد العدو الفرنسي، وقد استمر هذا الجهاد طيلة وجود هذا العدو في هذه الأرض الجزائرية. كانت فرنسا مستيقنة أن إسقاطها الدولة الجزائرية لا يكفي لبقائها في الجزائر، ما استمسكت هذه بدينها ولغتها وشعورها المشترك، ولذلك لم تألُ جهدا، ولم تدّخر وُسْعاً، ولم توفّر مالاً لمحو هذه المقومات، وهي الإسلام، واللغة العربية، والانتماء العربي، واجتهدت لفرض النصرانية، والفرنسية، على الشعب الجزائري، وإدماجه في فرنسا، لأن ذلك هو الضامن لبقائها في الجزائر، وقد لخّص هذه الاستراتيجية الفرنسية أحد مخططيها ومنفذيها، وهو الضابط (المُتَرَهْبِنُ) شارل دوفوكو في رسالة بعثها في سنة 1912 إلى صديقه الدوق فيترو جيمس، ومما جاء في تلك الرسالة: »إنني أعتقد بأنه إذا لم نستطع تحويل المسلمين بالتدريج عن دينهم، وحملهم على اعتناق المسيحية؛ فإن النتيجة الحتمية هي تكوُّنُ روح قومية جديدة تؤدي إلى طردنا من الامبراطورية الاستعمارية في شمال افريقيا. إن الروح الوطنية، العربية والبربرية، سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة التي ستستعمل الإسلام كسلاح فعال لإثارة الجماهير الجاهلة في امبرطوريتنا الفرنسية في أيامنا السود. إن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الامبراطورية هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسيحيين(1)«، وما أكثر مثل هذه الأقوال والأفعال عند القادة الفرنسيين، سواء كانوا في فرنسا أو هنا في الجزائر. أدرك قادة فرنسا وأولو الفكر فيها أن سياسة التنصير والفَرْنسة لن تجدي، وأن الشعب الجزائري - رغم التجهيل والتفقير، والترغيب والترهيب - لن يتخلى عن دينه، ولن يفرط في انتمائه، فاخترعوا له "إسلاما" تنزلت به الشياطين، سموه "الإسلام الجزائري" (I'Islam algerien) وممّن أوحى بهذا "الإسلام" جان ميرانت، وأوغسطين بيرك، وليس ماسينيون... وهو "إسلام يهادن الاستعمار()، ويقبل الضيم، ويعطي الدّنيّة في الدين والدنيا. ظنت فرنسا أن مخططها الإبليسي قد نجح، وأن الإسلام صار غريبا في الجزائر، بل وأعلنت في وقاحة ونذالة - بمناسبة احتفالها بمرور قرن على احتلال الجزائر - أنها شيعت جنازة الإسلام، ولكن الله أبى إلا أن يسفّه رأيها، ويُخْسِرَ سَعْيها، ويخيب أملها، فيَسَّر تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أحيت في قلوب الجزائريين وعقولهم "الإسلام الصحيح(2)"، وأطلقت ألسنتهم باللغة العربية المجيدة، وعرّفتهم بانتمائهم، وقالت على لسان الإمام عبد الحميد بن باديس: شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عَنَ اصله أو قال مات، فقد كَذَب أو رام إدْماجا له رام المُحَال من الطلب وقالت على لسانه أيضا: إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها(3)". وقام الشعب الجزائري - في أول نوفمبر 54 - مرة أخرى يجاهد في سبيل إعزاز دينه، وتكريم لغته، واسترجاع وطنه، وكان شعاره في معركته المجيدة "الله أكبر"، وكانت كلمة سر المجاهدين الأبرار في تلك الليلة المباركة "خالد - عقبة". وأكرم الله - بعد سبع شداد - أولئك الشهداء الأبرار، والمجاهدين الأحرار، فأنجز وعده، ونصر جنده، وخرج الجزائريون يهنئون أوْلَى الناس بالتهنئة، وأحقّهم بها، وانطلقت ألسنتهم تردد: أمحمّد مبروك عليك الجزائر رَجْعَتْ ليك لكن الذي قُدِّرَ لهم أن يتحملوا المسؤولية بعد تحرير الأرض الجزائرية لم يكونوا في مستوى وعي الشعب الجزائري، حيث بدأوا عملية إعادة بناء الدولة الجزائرية بعيدا عن روح الشعب الجزائري، فاستوردوا مبادئ وأفكارا غريبة عنا، بل مناقضة لديننا وأخلاقنا، ومكّنوا للغة عدوّنا، وقد تنبه الإمام محمد البشير الإبراهيمي إلى خطإ هذه السياسة وخطرها، فحذَّر منها، ومن سوء عاقبتها، ونشر في هذا الشأن بيانا في 16 / 4 / 1964، جاء فيه: "إن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية"، ونتيجة هذه السياسة المنحرفة، المعاكسة لروح شعبنا ومبادئه هي: "ان وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة، ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها، ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل(4)". لو كان مسئولونا - هداهم الله - على شيء من الوعي لقَدَّرُوا النعمة العظمى التي أنعم الله بها على الجزائر، وهي أن شعبها كله مسلم، ولأدركوا أن رأس الحكمة ولُبَّ السياسة أن يقاد هذا الشعب بالإسلام، هذا الإسلام الذي حفظه في ساعة العسرة، وحقق تحت رايته الانتصار، ولوَجَدوا في هذا الإسلام كل ماهو منشود من كرامة، وعدل، وشورى، ولوجدوا هذا الشعب منساقاً طبيعيا إلى النظام، والعمل، بفضل الإسلام. ولنتصوّر جميعا لو بقي بيْنَنا المليون فرنسي مسيحي الذين كانوا يغتصبون أرضنا، ويتَدَيَّرون ديارنا، ولنتصور - مرة أخرى - لو بقي بيننا المائتا ألف يهودي فرنسي الذين التحقوا بالفرنسيين. لو بقي هؤلاء جميعا في الجزائر بعد 1962، لأصبحوا اليوم حوالي سبعة ملايين أو أكثر. ألا يشكل وجودهم خطَراً داهما علينا أمة ودولة. ومَن كان في هذا الخطر يمتري فلينظر إلى أوضاع البلدان الإسلامية التي توجد بها عناصر غير إسلامية. لو حرص مسئولونا على الالتزام بالإسلام قولاً وعملاً، وساسوا الناس بمبادئه السامية وأخلاقه العالية، وتشددوا في ذلك لما وجدنا المسؤول المرتشي، والوالي السارق، والمدير الفاسق، والإطار الآبق، والصيرفي المحتال، ورجال الأعمال الغاش، والموظف الخائن... أَمَا وقد استبدل كثير من مسئولينا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فقد أصبح "حاميها حراميها"، وصار الجزائري يخبئ دراهمه في "الزِّيْر" على أن يضعها في البنك، وصار يعتمد على "عصاه" في حماية نفسه وأهله، لأن بعض من أُسنِدَتْ إليهم حمايته هم الذين يعتدون عليه. لو كان الأمر أمر يُسْرٍ مادي ووفرة مالية لأكَل شعبنا من فوق يديه ومن تحته رجليه، ولَعِشْنَا سعداء بعد هذه الطفرة الأخيرة لأسعار النفط، التي امتلأت بفضلها خزائننا، أو يفترض أنها امتلأت؛ ولكن الأمر ليس كذلك، بل هو أمر عقيدة تُعتنق، وأفكار تُتَبَنَّى، وأخلاق تُلتَزَم. لقد جرّبنا في تسيير شؤوننا وتدبير أمورنا منذ استرجاع استقلالنا إلى الآن مبادئ دخيلة، وتبنينا أفكارا هجينة، واستوردنا أخلاقا سافلة، فلم تزدد شؤوننا إلا سوءاً، ولم تزدد أمورنا إلا تدهورا... وأصابتنا فتنة كادت تجعلنا أثرا بعد عين، وأشْمَتْنا بنا الأعداء. فليتق الله من بيدهم مقاليد أمور هذا الشعب، وليعودوا إلى الله عودة صادقة، وليقودوا هذا الشعب بما رضيه الله له، وبما يستجيب له دون تهديد ولا وعيد، فيدخلون بذلك في التاريخ، وتذكرهم الأجيال القادمة بكل خير، وتنجلي عن هذه الأرض وعن شعبها الكريم هذه الغمة، لأن ما يحاولونه من إصلاحات، وما يسنونه من قوانين وإجراءات، وما يقيمونه من هياكل ومؤسسات بعيدا عن دين الشعب، ولغته، وأخلاقه فمثلهم فيه كمثل من "يبني سكنا ويهدم وطنا". ----------- 1 - نشرت هذه الرسالة جريدة لوموند في 17 / 5 / 1956. وأورد هذا المقطع الدكتور إبراهيم كبة في كتابه: "أضواء على القضية الجزائرية" ص46. دعا أحد اللاهثين لاسترضاء فرنسا إن الإسلام الذي أدعوا إليه هو إسلام Tranquille. 22 - "الإسلام الصحيح" هو عنوان رسالة للشيخ أبي يعلى الزواوي، عضو جمعية العلماء. 33 - مجلة الشهاب ج9. مجلد 13. نوفمبر 1937. 44 - أنظر البيان في آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي. دار الغرب الإسلامي.ج5. ص317.