الحاج أسعيذ ناف أفليق (دائرة آزفون)، هو أحد أعلام الشعر الديني الأمازيغي البارزين في النصف الأول من القرن العشرين في الزواوة الغربية. * ورغم مرور ما يقارب سبعين سنة عن وفاته، فإن أشعاره العديدة لا زالت محفوظة في الذاكرة الجمعية، يرتلها المريدون (لخوان) في حلقات الذكر، التي تعقد خلال المناسبات الدينية والأفراح والأتراح. و لئن عُُرف بعلو كعبه في مجال الشعر الصوفي، فإن إبداعه الفريد لم يحظ بعناية الدارسين(1)، لذا فمن الطبيعي أن يؤسس أهل قريته جمعية ثقافية، يترأسها الحاج محمد حومال (94 سنة)، تُعنى بجمع وتدوين تراثه الشعري الثري، الذي ضاع منه الكثير. * نبذة عن حياته * هو جرابي أسعيذ، المدعو الحاج أسعيذ ناث أفليق. ولد سنة 1883م في قرية ألماڤشثوم (عرش آث أفليق، بلدية أقرّو، دائرة آزفون، ولاية تيزي وزو). تعلم القراءة والكتابة بمسجد قريته على يد الشيخ كيال بلقاسم، ثم انتقل إلى زاوية سيدي منصور لإتمام حفظ القرآن، لكن ظروفه الاجتماعية القاسية أرغمته على العودة إلى قريته، بسبب وفاة والده، بعد أن حفظ حوالي خمسة عشر حزبا فقط. وبعد أن تعاطى الفلاحة لبعض الوقت، تولى الإمامة بقرية اُولخو (بلدية آث شافع)، لينتقل بعدها إلى مدينة الجزائر، أين اشتغل في مطعم عمه بالحراش لبعض الوقت، قبل أن يفتح مطعما قرب ساحة الشهداء، ظل يديره بنفسه إلى أن كبر أبناؤه، فترك لهم أمر تسييره، ليعود إلى مسقط رأسه. وهكذا قضى حياته متنقلا بين مسقط رأسه ومدينة الجزائر. إلى أن توفي في جانفي سنة 1946م. * عرف الحاج أسعيذ منذ صغره بالاستقامة والتدين، وقد أدى فريضة الحج في مطلع شبابه. وعوّض محدودية تحصيله العلمي، بمجالسة العلماء والصلحاء والأخيار، وبالاغتراف من منابع التصوف السني، الأمر الذي مكنه من اكتساب قدر معلوم من الثقافة الدينية، أسقطها على شعره، المشرّب بمسحة الوعظ والإرشاد. * وعُُرف أيضا بسيرته الحسنة، وبأعماله الصالحة، وتقربه إلى الله بالعبادة ومجاهدة النفس، وبانتمائه إلى صفوة الأخيار الذين كانوا يعملون على رأب الصدع في المجتمع، وإصلاح ذات البين، وتكريس ثقافة المصالحة في المجتمع. وجعل موهبته الشعرية منبرا للوعظ والإرشاد، ولدعوة الناس للرجوع إلى الإسلام الصحيح ونهجه القويم، والى العض بالنواجذ على الهوية الإسلامية، التي أنقذت الجزائر من الانصهار في بوتقة الحضارة الفرنسية. * يعد الحاج أسعيذ، من المتصوفين الكبار في بلاد الزواوة، الذين رزقهم الله بموهبة شعرية باللسان الأمازيغي، أوقفها على مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإرشاد العوام إلى التربية الصوفية السنية، وتنبيه الغافلين إلى ضرورة مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، المطبوعة بحب الدنيا وملذاتها ومباهجها، والى إتباع السنة المحمدية. * ولعل ما يلفت الانتباه في مسار هذه الشخصية الصوفية، أنه كان وطنيا، لم يهادن الاستعمار وأعوانه، بل حاربه بلسانه وشعره، لذلك كان ذخرا للحركة السياسية الداعية إلى التحرر الوطني، وله في هذا المجال مواقف مشرفة حفظها له التاريخ، أدرجها بذكاء ضمن الشعر الديني من باب التقية والحذر. * مقتطفات من شعره الوطني * أرجع الشاعر سقوط الجزائر في براثن الاستعمار إلى تخاذل الجزائريين، الذين انحرفوا عن القيم الإسلامية الصحيحة. والأنكى من ذلك أن صار الناس أتباع من غلب، فتسابق البعض إلى خطب ودّ فرنسا عن طريق الوشاية والتذلل، فسقط الشعب إلى الدرك الأسفل، حيث نار العبودية: * نَفهَمْ إلُُُومََا إدُوسَا * أطَيْْفا ثخضا أبْريذِِيسْْ * نََمْعاناذ ْْ أرْ أثْْمُُوسََا * أنْْوى أرََايْْزنْزَنْ وينِِيسْْْ * نََجَّ الدينْْ نَتبَعْْ أفرنسا * أرامِِي إغْْْثََرََّ ذاكْْلانِِيسْْ * وأشار أيضا إلى التجنيد الإجباري الذي فرضته فرنسا على الشباب الجزائري، فصار وقودا لحروب، لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد: * أدّرْْيانَغْْ ثَبْْويتسْْ ثلسَا * أذِينَغْْ ييسْْ إعذاوْنِيسْْ * أكْرى بْْوينْ في إديسََقسََا * أذيرُُوحْْْ أبْلى الغَرضيسْْ * يَََفكاياغ ْ ربّي البخصا * أفرُوخ ْْ يََمْْنعْ أرَََّاويسْْ * ثم شبه حالة الجزائريين المزرية في ظل الاستعمار، بحالة العبيد في عهد الفراعنة المتجبرين: * نَسَّرْْوا إلجْناس ثاضصا * أولاشْ وي رَفْذنْ ونِِيسْْ * أمْْ ألمالْْ أرُُومََكْسا * نََغْْ أكلي أڤْفُُوسْ أنْ سِِيذِيسْْْ * فرعون زيكْ وََقْْبَلْْ أسََّا * أكّا إڤَََخْذمْ ألقُُومِِيسْْ * هذا وقد تأسف كثيرا على تراجع التعليم العربي، وعزوف الجزائريين عن طلب العلوم الشرعية، وإقبالهم على إرسال أبنائهم إلى المدرسة الرسمية لتعلم اللغة الفرنسية بشغف: * القرنْ أربعطاش مُُهابْْ * يُوفاثْْْ أشِِِيخْْ ذي أتّفْسيرْ * القومْ أڤِِي أجذيذ أيْْْخابْ * السُُّنََّه ضقْْرََنْتسْ ألبيرْْ * مَذلولْ وََقْْْبايلي أذ ْ وََعْْْرابْ * إثْْرُُومِِيثْ يََتسْْْكََريرْْْ * كما أشار أيضا بطريقة أدبية راقية، إلى استئساد اليهود في ظل الاستعمار الفرنسي، مقابل سقوط المسلمين في ذلة: * ألمُومََنْْ يْتََبْعََنْْْ أشّريعََا * يَقبََرْ وُلِيسْ أيْفَلّقْ * صاحَبْْ السبت يُُوبي أشِّيعَا * يْْسَََخذمْ الغرب الشرقْ * مَذلولْ صاحَبْ الجمعة * أربّي الحنين أرْفَََقْْ * ومن جهة أخرى أدرك خطورة الاستعمار، الذي فرض على الجزائريين سياسة الفرنسة، فأصابت الهوية الجزائرية في الصميم، وكانت لسياسته التغريبية تداعيات جد خطيرة على المجتمع الجزائري: * أنْسِِِي إغْْْدَفّغْْ أثْوََغِِيثْْ * إلََحْْكُُمْْنَغْْْ ذامَكْفُُورْْ * أكْرََا أيْْسَجْْذنْْ إثْزََََالِيثْْْ * أذعُُوثْ ما ثَسْْعام لُُجُورْ * ربّي عََجْْلدْْ أسْْ ثالويثْْ * يََعْْرَََقْْْ الحََبْ ذڤْ هِِيشُُورْْ * ومن مواقفه الوطنية البارزة ، تنظيمه لاعتصام بمعية المريدين (الإخوان)، سنة 1930 أمام كنيسة بلدة آزفون، بمناسبة احتفال فرنسا بالذكرى المئوية لاحتلالها للجزائر، وكان ذلك بمثابة التعبير عن استمرار جذوة المقاومة، ولو بأضعف المواقف، وخلد موقفه هذا بقطعة شعرية، تأسّف فيها على دخول الفرنسيين إلى منطقة آزفون المعروفة بتدين أهلها وبكثرة أوليائها الصالحين، واعتبر بناء كنسية هناك بمثابة تدنيس المنطقة، صارت أجراسها تنغص حياة الناس، وتقض مضاجعهم فهي بمثابة شوكة في أحلاقهم: * آزفون يَلانْ مُوهابْ * يَگشَمْ وَعْذاوْ أگالِيسْ * أبْنانْ لِ?لِيزْ إوَرْحَابْ * أرْنانْ أشُوقلالْ ذخلِيسْ * سَنّقُوسْ لايَْطبْطابْ * ألْمُومَنَ يَجْرَحْ وُلِيسْ * وكم كان سروره عظيما عند انهزام فرنسا أمام القوات الألمانية في صيف 1940، فاحتفل بانهزامها على طريقته الخاصة: * باسم الله أرْنََبُذو الحِِزََبْْ * أدْنََهْْذرْ فلعامْ أرْبعينْ * أسياذي الرحماسْْ ثََقرَبْْْ * ذيري وي أيْتََيْْسَنْ أسَمْْعينْْ * نََحضَرْ إفرنسا ثََخْرَبْْ * اُُولىََ ذامْْحَدي اُورْْ ثََسْْعينْ * هذا غيض من فيض، من شعره السياسي الغزير، الذي فضح به الاستعمار الفرنسي، وسهامه الموجهة إلى الهوية الجزائرية المسلمة، وجرائمهم البشعة التي استهدفت الجزائريين، فأنزلهم إلى الحضيض، إلى درجة العبودية، وقدم تلميحات بليغة عن سياسة الاستعمار المبنية على ثالوث التجويع والتجهيل، والتنصير. وسعى لاستنهاض الهمم بالتلميح أحيانا وبالتصريح أحيانا أخرى،ونجح في ربط الدين بحب الوطن، لذا كانت له مكانة مرموقة لدى رواد الحركة الوطنية في منطقة آزفون. * الهوامش * 1- أشار إليه الكاتب يوسف نسيب إشارة خفيفة في كتابه الموسوم: * Anthologie de la poésie Kabyle, Editions andalouses, Alger, 1993, P. 327.