دول الجنوب مُطالبة بإستراتيجية موحدة لافتكاك حرية تنقل الأشخاص يعتبر البروفيسور «محمد سليم قلالة»، الخبير في الدراسات الاستشرافية، أن مخاوف الأوروبيين من اعتماد مبدأ حرية تنقل الأشخاص، الذي تطالب به دول الجنوب المتوسطي، تبقى مشروعة، لكنه يؤكد من جانب آخر بأن التعامل الحالي مع هذا الملف لا يضمن التكافؤ بين الجانبين، وهو يقترح في هذا الحديث مع «الأيام» على بلدان الجنوب لعب ورقة الضغط الاقتصادية على أوروبا من خلال المقاطعة والانفتاح على البلدان التي تمنح تسهيلات للهجرة مثل الصين، ويرى في هذا الخيار إستراتيجيا من أجل افتكاك تنازلات من الأوروبيين. حاوره: زهير آيت سعادة لا يزال موقف البلدان الأوروبية مُعارضا لاعتماد حرية تنقل الأشخاص مع الضفة الجنوبية للمتوسط، ومع ذلك تبقى دول الجنوب عاجزة عن اتخاذ إجراءات كفيلة بتحقيق مكاسب في هذا الإطار. برأيكم ما هي أسباب اختلاف المُقاربات بين الطرفين في هذا النقطة بالذات؟ في الحقيقة موضوع الهجرة وحرية تنقل الأشخاص يعتبر جوهر الخلاف بين ضفتي حوض جنوب وشمال المتوسط، لأن ما تبقى من قضايا خلافية تمت تسويتها في المراحل السابقة مثلما هو الشأن بالنسبة إلى التعاون الاقتصادي وكذا التبادل التجاري وحتى ما يتصل بالجانب الثقافي، وبالتالي فإن كل القضايا وجدت طريقها إلى الحل باستثناء ملف تنقل الأشخاص الذي لم يحظ حتى الآن باتفاق وإجماع بين الجانبين، ويعود ذلك بالأساس إلى الموقف المتعنّت للشمال وليس الجنوب. وحتى إن جميع نتائج عمليات سبر الآراء التي تمت بخصوص هذه المسألة في بلدان الشمال المتوسطي بيّنت أن المطلب الأساسي لربط علاقات اقتصادية قوية بين الضفتين يأتي رأسا شرط ضمان حرية تنقل الأشخاص والأفراد عموما، بما ذلك هجرة الأدمغة، ولكن مع الأسف فإن حكومات الشمال ترفض مناقشة هذا الموضوع من جملة القضايا التي تربطها بدول جنوب المتوسط، وهي لا تزال على موقفها الذي تعتبر فيه بأن الهجرة تشكّل خطرا بالنسبة لها، بل إنها تنظر إلى هذه القضية على أنها تهديد لأمنها الداخلي وخطر على التوازن الديمغرافي، بل وحتى على التماسك الثقافي والاجتماعي. ومن ثمّ فإنه إذا أردنا الموازنة بين مختلف المطالب لربط علاقات متكافئة نجد أن بلدان الشمال توافق على كافة المسائل ما عدى حرية التنقل لرعايا البلدان الجنوبية. لكن في المُقابل ألا تعتقدون بأنه حق طبيعي وأمر مشروع بأن تُعبّر بلدان الضفة الشمالية عن مخاوفها تُجاه مطلب فتح أبواب الهجرة وحرية تنقل مواطني الضفة الجنوبية من منطلق المخاطر التي أتيتم على ذكرها؟ أمر طبيعي أن تكون مُبررات ومخاوف بلدان الضفة الشمالية مشروعة، ولكن من جهة ثانية فإن انشغالات ومطالب الضفة الجنوبية تبقى هي الأخرى مشروعة لأنه ليس من المقبول استنزاف الموارد الطبيعية وخيرات الجنوب واعتبارها بمثابة سوق تجارية مربحة للأوروبيين وفي المقابل تضع قيودا ولا تقبل بمبدأ حرية تنقل الأشخاص، ولذلك فإن هذا الطرح غير مُتكافئ وكان من المفروض أن تُطرح المسألة على أساس توازن بين مختلف القطاعات، واللافت هنا أنه من مصلحة بلدان شمال البحر الأبيض المتوسط بقاء الوضع على حاله. ومن هذا المنطلق أجدّد التأكيد بأن ملف الهجرة وحرية تنقل الأشخاص بين ضفتي الحوض المتوسط تطرحه الدول الأوروبية المتوسطية على أساس غير مبرّر وهو مناف لقيم الديمقراطية والعدل التي تدعو إليها وتدّعي العمل بها، والغريب في الأمر أن الوضع لا يتوقف عند هذا الحدّ لأن بلدان الشمال المتوسطي ذهبت حتى إلى المطالبة من بلدان الجنوب بوضع سدّ وحاجز أمام الهجرة القادمة من إفريقيا وجنوب الصحراء، كما أنها تطلب مساعدة أخرى تتمثل في ضرورة فتح مراكز العبور وانتقاء الهجرة نظير استفادتها من مزايا اقتصادية. من منطلق أنكم تصفون الوضع الحالي في العلاقات بين دول ضفتي المتوسط ب «غير الطبيعي»، هل هناك خيارات ناجعة أمام حكومات وشعوب الجنوب المتوسطي للحصول على مطالبها التي تضمن لها حرية تنقّل الأشخاص؟ عندما نتحدث عن هذه الملف الشائك يجب أن نتعامل كدول الجنوب المتوسطي مع قضية فتح أبواب حركة الأشخاص بصرامة أكثر، فعلى هذه الدول أن تتفق على إستراتيجية موحدة من خلال اشتراط فتح أبواب الهجرة وتنقل الأفراد بكل حرية ومن دون أية عراقيل في مُقابل فتح الأسواق وأبواب الشراكة الاقتصادية، ولا أعتبر هذا الخيار بمثابة ورقة ضغط لأن هذه المعاملة تُطرح من باب العدل في العلاقات الدولية ووفق ما يضمن تحقيق مصالح الطرفين. فخيار التقليل من التعامل الاقتصادي مع بلدان شمال المتوسط وأوروبا عموما، لصالح تنويعها مع شركاء آخرين وفي مقدمتهم الصين والبلدان الآسيوية التي تبقى تفتح أبواب الهجرة وحرية تنقل الأشخاص بصفة تامة، يبقى في اعتقادنا خيارا ضروريا من أجل الضغط أكثر على الجانب الآخر ومن ثم اكتساب مزيد من المزايا في هذا الاتجاه، وعليه فإن المطلوب من هذه الحكومات هو أن تتفاوض مع بلدان شمال المتوسط من موقع قوة لأنه في النهاية هناك مصالح كبيرة للأوروبيين عندنا وهم بذلك غير قادرين على التنازل عنها مهما حصل. ألا توافقوننا الرأي إذا قُلنا بأن هذا الطرح الذي تتحدّثون عنه يبقى صعب التحقيق في ظل الظروف الراهنة التي تعرفها حكومات الدول الجنوبية للمتوسط، أم أن لكم رأيا آخر؟ ورقة الضغط أمر في غاية الأهمية لكن ينبغي أن نطرحها على المدى البعيد لأن هذا الخيار غير قابل للتحقّق في الوقت الراهن بالنظر إلى حالة الشلل التي تمرّ بها بلدان الضفة الجنوبية، فهي غير متماسكة داخليا وغير مُوحدة كما أنها ليست قادرة على تقوية موقعها التفاوضي تُجاه الضفة الأخرى من المتوسط بما في ذلك ما يرتبط بحرية تنقل الأشخاص والهجرة بمفهومها الواسع. ولكن هذا لا يعني استحالة تحقيق هذا المكسب لأنه يجب العمل على المدى البعيد من خلال اللعب على ورقة المصالح الاقتصادية الأوروبية في الضفة الجنوبية من الحوض المتوسطي، وأعتقد بأن هذا الأمر قابل للتحقيق في حدود 20 إلى 25 سنة المقبلة. وبالتالي فإن المطلوب هو طرح هذا المشروع ووضعه في سياقه الطبيعي ضمن آفاق ونظرة استشرافية بعيدة، ففي الأخير لا يُمكن التوصل إلى حلّ توافقي مع الضفة الأخرى في ظرف خمس سنوات على سبيل المثال، فمن الضروري رسم إستراتيجية مستقبلية واضحة المعالم على أساس أن المعطيات الحالية سوف تتغيّر ولن تبقى هي نفسها بعد عقدين من الزمن. من كل هذه المُعطيات إلى أي مدى يُمكن لمشروع الاتحاد من أجل المتوسط أن يتجسّد بعد فشل مسار برشلونة الذي انهار بسبب عدة عوامل منها الاختلاف في طريقة التعامل مع ملف الهجرة؟ لا يُمكن على الإطلاق تجسيد مشروع الاتحاد من أجل المتوسط ومصيره هو نفس المصير الذي آل إليه مسار برشلونة، ويعود ذلك إلى العديد من الاعتبارات تأتي في مقدمتها أن الجانب الأوروبي، وأقصد فرنسا، جاء بهذا الطرح من غير استشارة دول الجنوب وطلبت منها مباشرة الاندماج فيه، وهذا أمر خاطئ لأن فيه نوعا من الإجبارية في تقديم التصوّر، ثم إن مشروع الرئيس الفرنسي لا يحمل أي جوهره باستثناء الجديد في تفاصيله. وأكثر من ذلك دول الشمال المتوسطي أبقت على نفس التعامل مع دول الجنوب من خلال التفاوض معها بشكل انفرادي، وهو ما حصل تماما في مسار برشلونة، وبموجب ذلك فإن جوهر السياسة الأوروبية تجاه الجنوب لم يتغيّر وبقي كما هو عليه وإنما تغيّر فقط الشكل، ولكن مع الأسف فإن العيب ليس في الحكومات الأوروبية بقدر ما هو في حكومات الضفة الجنوبية التي لم تقدر حتى على تقديم بديل يشفع بضمان كافة مصالحها الاقتصادية ويكفل حماية مصالح أفرادها.