تحولت الاحتجاجات على ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية إلى عمليات تخريب للممتلكات العمومية والخاصة، وشهدت عدة أحياء في العاصمة عمليات نهب واعتداء على المواطنين، وتشير هذه الانحرافات التي طالت حركة الاحتجاجات إلى غياب طرف سياسي أو نقابي فاعل قادر على ضبط الغضب الشعبي وتوجيهه نحو تحقيق أهدافه المشروعة وفي إطار العمل السلمي والقانوني . شهدت عدة أحياء من العاصمة عمليات سطو على محلات تجارية ونهب لمحتوياتها قامت بها مجموعات من الشبان المسلحين بالسيوف، وتم إحراق متاجر خاصة، ومعارض للسيارات تابعة للخواص، وقد تحولت كبرى مدن الجزائر إلى مدينة أشباح بعد أن سارع المواطنون إلى الالتحاق ببيوتهم مباشرة بعد الزوال، ومن الغريب أن الاحتجاجات عادت مجددا في الليل بعد يوم هادئ نسبيا. أغلب المواطنين أبدوا استياءهم من انحراف الحركة الاحتجاجية وسقوطها في فخ العنف، فقد لحق ضرر بالغ بممتلكات عمومية وخاصة، وتم تحطيم مقرات هيئات رسمية، وأتلفت إشارات الطرق وحطمت أعمدة الإنارة العمومية، كما تم تسجيل اعتداءات كثيرة على المواطنين الذين جردوا من أموالهم وأغراضهم الشخصية تحت التهديد بالسلاح الأبيض، وقد شهدت البليدة اعتداء سافرا على طلبة جامعيين بعد استيلاء مجموعة من المنحرفين على حافلتهم التي أضرمت فيها النيران فيما بعد، وشهد حي الأبيار إنزالا لمجموعة من الشباب المسلحين بالسيوف الذين اعتدوا على المحلات ونهبوا محتوياتها، وتم تدمير معرضي سيارات بكل من حي العناصر وحي باب الوادي، فضلا عن كثير من الاعتداءات التي أشاعت جوا من الخوف في أوساط المواطنين. هذا الانزلاق نحو العنف غير المبرر أساء إلى الحركة الاحتجاجية التي حركتها مطالب اجتماعية واضحة تتعلق برفض الزيادات الكبيرة في أسعار المواد الغذائية الأساسية وخاصة السكر والزيت، وقد اعترف وزير التجارة عشية اندلاع الاحتجاجات، وفي ندوة صحفية عقدها بمقر وزارة التجارة، أن هذه الزيادات غير مبررة وأنها جزء من محاولات الضغط التي يمارسها التجار والمستوردون المتخوفون من تطبيق القانون، وقد عاد يسعد ربراب رئيس مجمع سيفتال، وهو أحد أكبر مموني السوق الوطنية بالسكر والزيت، إلى تأكيد ما ذهب إليه الوزير مصطفى بن بادة بالقول إن سيفتال لم ترفع الأسعار وأن تجار الجملة هم من فعلوا ذلك، وكل هذه التصريحات تعطي مزيدا من الشرعية لغضب الشارع من الأوضاع المعيشية الصعبة ومن الغلاء الذي لا يمكن أن يفصل في جزء منه عن موجة عالمية لارتفاع الأسعار أدت إلى اندلاع موجات احتجاج في دول مختلفة من العالم. غير أن شرعية المطالب طعنت فيها الأساليب التي عمد إليها المحتجون الذين لجأوا إلى العنف والتخريب وفتحوا بذلك الباب أمام المنحرفين لركوب الموجة من أجل القيام بأعمال لصوصية ونهب دفع ثمنها المواطنون أولا، وستكلف الخزينة العمومية مزيدا من الأموال التي سترصد لإصلاح ما أفسده هؤلاء. القراءة الاجتماعية لما جرى لا يمكنها أن تقدم تفسيرا مقنعا يمكنه أن برر هذه الأساليب، فقد كان انطلاق الاحتجاجات بشكل عفوي ثم انحرافها في كثير من الحالات نحو العنف مؤشرا على الغياب الكامل للنخب السياسية عن الساحة، فالأحزاب السياسية لم تلاحظ حالة الغليان الاجتماعي، وحتى إن كان بعضها قد درج على التحذير من الانفجار القادم نظريا فإنها لم تقم بأي تحرك ميداني من أجل توجيه المواطنين والقيام بتحرك مدروس للتعبير عن المطالب الاجتماعية بطريقة سلمية وقانونية لدفع الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية للتحكم في الأسعار وضبط السوق، وحتى بعد اندلاع الاحتجاجات بدت هذه الأحزاب عاجزة تماما عن استيعاب الحراك الاجتماعي أو عن تأطير الاحتجاج حتى لا يخرج عن مقصده، وباستثناء بعض البيانات السطحية الغارقة في العموميات بدت الأحزاب وكأنها تحاول مواكبة حركة الشارع دون أن تفلح في ذلك. الاحتجاجات التي اندلعت الأربعاء الماضي في مدن مختلفة من البلاد دفعت ببعض وسائل الإعلام إلى تشبيهها بأحداث الخامس أكتوبر التي شكلت نقطة تحول كبيرة في تاريخ الجزائر المستقلة، غير أن المقارنة بين الحدثين تستوجب الإشارة إلى بعض النقاط الفارقة، فبعد أحداث أكتوبر تم تبرير العنف بانعدام الحرية السياسية التي توفر قنوات للتعبير عن الرأي وتفتح المجال أمام الحق في المعارضة، ورغم أن تلك كانت حقيقة فإن الاحتجاجات العنيفة آنذاك اقتصرت على مهاجمة المتظاهرين لما كانوا يعتقدون أنه يرمز إلى النظام سواء تعلق الأمر بإدارات عمومية أو بمؤسسات تابعة للقطاع العام أو حتى أسواق للفلاح، وحتى إذا كانت هذه الممتلكات قد تعرضت للنهب فإن المؤكد أن الحركة الاحتجاجية لم تتحول إلى موجة من أعمال النهب والسرقة والاعتداء على المواطنين بل تطورت مع مرور الأيام لتصبح حركة سياسية بمطالب واضحة حتى وإن كان محركها الأول اجتماعيا، أما في حالة الاحتجاجات الحالية فيبدو أن النخب السياسية تراجعت سنوات إلى الوراء. بعد أكثر من عقدين من التعددية السياسية تبدو كل الأحزاب السياسية اليوم عاجزة عن حمل مطالب المجتمع، والتعبير العنيف والعفوي والفوضوي عن هذه المطالب هو تأكيد صريح على أن الأحزاب السياسية أصبحت مقطوعة الصلة بالمجتمع، والإدانة هنا تطال المعارضة قبل الأحزاب المشاركة في الحكومة.