لم يتراجع الرئيس «بوتفليقة» في خطابه الأخير عن موقفه الرافض لفتح مجال الإعلام السمعي البصري أمام الخواص، وفضل بدلا عن ذلك الحديث عن تحسين نوعية الخدمة الإعلامية التي يقدمها التلفزيون العمومي، ويبدو الأمر متعلقا بمخاوف تتجاوز بكثير الخوف من الحرية الإعلامية أو التحفظ عليها . عندما سئل الرئيس بوتفليقة في غمرة الحملة الانتخابية لرئاسيات 2004 عن فتح الإعلام السمعي البصري أمام الخواص قال هذا تلفزيون الدولة ومن أراد أن يقول ما يشاء فعليه أن يمتلك تلفزيونا خاصا به، وبدا ذلك التصريح آنذاك غامضا بعض الشيء ، بل ذهبت الصحف الخاصة إلى القول بأن الرئيس أكد أن التلفزيون هو ملك للحكومة أو السلطة، وأن المعارضة لن يكون لها الحق في استخدامه للتعبير عن وجهة نظرها، لكن هذا التأويل لم يكن دقيقا، فقد ذكر بوتفليقة الدولة، وما قاله بخصوص هذه المسألة بالذات في خطابه الأخير تلقي بعض الضوء على تلك الرؤية وتقدم القراءة الأقرب إلى التصور الذي يحمله الرئيس عن مسألة تحرير الإعلام السمعي البصري، فقد جاء في الخطاب :"لا بد لي من تذكيركم بأن أجهزة الإعلام الثقيلة المتمثلة في التلفزة والإذاعة هي كذلك صوت الجزائر المسموع في العالم، وذلك يلزمها الإسهام في ترسيخ الهوية والوحدة الوطنية وفي الآن ذاته تعميم الثقافة والترفيه، لكنها مطالبة فوق ذلك بالانفتاح على مختلف تيارات الفكر السياسي في كنف احترام القواعد الأخلاقية التي تحكم أي نقاش كان"، ومن المؤكد أن الحديث عن ضرورة التزام الإذاعة والتلفزيون بترسيخ الهوية والوحدة الوطنية لم يأت من فراغ، بل إن هذه الإشارة تعكس الخوف الأكبر للرئيس من فتح الإعلام السمعي البصري في هذه الفترة بالذات. تجربة الصحافة الخاصة عززت هذه المخاوف، فقد تحولت بعض الجرائد إلى جماعات ضغط لها ارتباطات مالية وسياسية، وقد لعب بعض هذه الجرائد دورا واضحا في تقديم صورة مشوهة عن الوضع في الجزائر، حيث درج مسؤولو بعض الصحف على الاتصال بشكل منتظم بالسفارات الغربية وتقديم تقارير مفصلة عن الأوضاع في الجزائر، وفي حالات كثيرة كانت تلك التقارير غير دقيقة، وجاءت وثائق ويكيليكس حافلة بتلك التقديرات الغريبة التي استقاها الدبلوماسيون الأمريكيون من صحافيين ومسؤولي جرائد تطوعوا من أجل إقناع ممثلي القوة العظمى بسوء الحال هنا وضرورة العمل من أجل الضغط على السلطات. أكثر من هذا كان التناول الإعلامي لمسائل الهوية يثير في كل مرة الجدال بسبب بعض التجاوزات التي كانت ترتكب، كما أن قضية الهوية ككل تحولت في وسائل الإعلام الخاصة إلى مسألة خلافية يدفع النقاش حولها نحو مزيد من الأفكار السلبية التي تشكلها فئات مختلفة من المجتمع عن بعضها البعض، غير أن التأثير المحدود للصحافة الخاصة في الرأي العام قلل من مخاطر هذه التوجهات الإعلامية، بيد أن مجرد تصور محطات إذاعية وتلفزيونية خاصة محل الجرائد يجعل الوضع يتغير بشكل جذري، فتأثير هذه الوسائل كبير جدا وهو يشمل الفئات الأقل تعلما التي تشكل نسبة مهمة من المجتمع ، فضلا عن كون هذا التأثير يتم بشكل مستمر ويأخذ أبعادا متنوعة ويمكن أن يكون من خلال تضمين الخطاب السياسي والثقافي بشكل غير مباشر في برامج ترفيهية تمس كل فئات المجتمع بما في ذلك الأطفال، وهو ما يعني الوصول إلى التأثير في التنشئة السياسية والثقافية. مخاوف بوتفليقة قد يتقاسمها معه كثير من الجزائريين إذا تم الالتفات إلى الحقائق القائمة على الأرض الآن، فتحرير هذا القطاع في الظرف الحالي يتيح لجماعات المصالح التي تملك المال والمتحالفة مع بعض الأحزاب السياسية من الاستفادة قبل غيرها من الانفتاح، بل إنها تملك الوسائل التي تسمح لها بالانتقال مباشرة إلى الاحتكار، وهو أمر يضع الهوية والوحدة الوطنية في خطر ودون أدنى مبالغة، فعندما يكون القانون يسمح بإنشاء قنوات تلفزيونية وإذاعية خاصة فلن يكون هناك ما يمنع أي حزب حتى ولو كان انفصاليا من امتلاك إذاعته وتلفزيونه بل إن الجماعات غير المنظمة يمكن أن تمتلك هذه الوسائل من خلال استعمال واجهة تجارية، ولنا أن نتخيل أن رجلا مثل فرحات مهني يملك قناة تلفزيونية خاصة، فضلا عن وجود نخب مرتبطة بثقافة غربية تسعى إلى نشرها. ورغم أن هذه المخاوف يثيرها كثير من الخبراء والمتخصصين فإن سؤال المرحلة هو ما الحل ؟ والإجابة هي أن الحل لا يكمن في غلق هذا المجال الحيوي إلى الأبد، وحتى بوتفليقة نفسه يعترف بأننا سنذهب إلى هذا الخيار في يوم ما لكن هذا الانتقال لا يمكن أن يكون قبل امتلاك تلفزيون عمومي مؤثر وذي مصداقية، ومن هنا جاء تذكيره في الخطاب بأنه: "من أجل توسيع هذا الانفتاح على المواطنين وممثليهم المنتخبين ومختلف الأحزاب الحاضرة في الساحة الوطنية على حد سواء سيتم دعم الفضاء السمعي البصري العمومي بقنوات موضوعاتية متخصصة ومفتوحة لجميع الآراء المتعددة والمتنوعة"، وهو ما يعني تحسين أداء وسائل الإعلام العمومية الثقيلة وجعلها قادرة على تشكيل رأي عام وطني تميزه التعددية في الأفكار وتجمعه الثوابت الوطنية التي تحميها المدونة الأخلاقية التي سيضع معالمها القانون الجديد للإعلام حسب التزام الرئيس. هكذا تتضح خطة بوتفليقة لفتح الإعلام السمعي البصري، وتقوم هذه الخطة على تأمين هذا الانفتاح أولا بوضع ضوابط تحكم عمل القنوات الإذاعية والتلفزيونية مع وجود إعلام عمومي قوي ومؤثر، وبلوغ هذا التوازن يتطلب مزيدا من الوقت يجب استغلاله في إعادة تنظيم الإذاعة والتلفزيون وتمكينهما من لعب دور رائد على الساحة الإعلامية الوطنية تقوم أساسا على الخدمة العمومية وليس على النشاط التجاري الذي يطبع عمل وسائل الإعلام الخاصة في العادة، ولعل الرئيس يريد استلهام التجارب الأوروبية في هذا المجال حيث تمثل التلفزيونات العمومية القوة الإعلامية الأساسية في تلك الدول رغم وجود مئات القنوات الخاصة، وهو أمر ينطبق على فرنسا من خلال "فرانس تلفزيون" أو بريطانيا من خلال شبكة "بي بي سي" الحكومية أو إيطاليا من خلال شبكة "راي"، وتمثل القنوات العامة والمتخصصة التابعة لهذه الشبكات وسائل الإعلام الأكثر تأثيرا والأكثر متابعة.