بقلم: وديع العبيدي/ العراق مياه النهر أعلى من مناسيبها هذه الأيام. أمواجه تتدافع متزاحمة تلتهم الواحدة منها الأخرى مثل أرداف هائلة في حركة متناسقة عنيفة تعجز الضفاف الضيقة عن استجماعها والسيطرة عليها في نسقها المعهود، فتتناثر رشقات منها على اليابسة تدفعها ريح عنود باردة. بينما تتلوى أعواد القصب والبردي المزدحمة على الجانبين تاركة المياه تشخب خلالها، وتجاهد للمحافظة على وجودها من صفعات الأمواج التي تقتطع أجزاء منها في انسحابها وتدفعها فوق ظهرها الذي يبدو عندها أعلى من مستوى الشارع المحاذي. بين حين وآخر، تولد موجة عارمة ترفع المياه نحو الأعلى مثل فوران الحليب على موقد، فتكاد المياه تخترق الضفاف والسهوب نحو الخارج.. السماء كانت منخفضة.. والمكان بدا خاوياً.. بينما خطواتي تتواصل عكس تيارات المياه.. كأني ماضٍ للبحث عن منابعها أو منحدراتها أو معاتبتها على ما تسببه من دمار وأذى.. منشغلاً بمراقبة تموجاتها.. دون أن يخالجني شعور بالتوجس أو القلق. الجسر صار أمامي. ليس بينه وبين سطح الماء غير أصابع قلقة.. يلتهمها فوران الأمواج فتصفع قاع الجسر أو تدفع رذاذها على سطحه.. كان جسراً طويلاً.. مهيباً على صفحة المياه الثائرة مثل جماهير غاضبة أطلقت من عقالها أو قطعان انطلقت من أقفاصها هاربة من وعيد ونذير. تمادت مساحات المياه كثيراً حتى غابت نهاية الجسر الثانية في وسط النهر متخافية عن النظر. لم أكن قد رأيت النهر على هذه الصورة من الاحتفاء.. ممتلئاً بالنشاط والعنفوان والارادة. بلا وعي.. ومن غير تفكير تسلقت خطواتي الجسر.. بدا الجسر ضيقاً وضعيفاً أمام عرمرم النهر. نظراتي تراقب السيل المنحدر.. في أعماق الماء.. كان أشخاص ممددين في أكياس من البلاستك.. تكاد تختفي بين شفرات الأمواج.. في أفواههم أنابيب بارزة نحو الأعلى لالتقاط الهواء.. كانت المياه تقود القوارب المطاطية بعنف حيث تشاء، دون أن يقوى ممتطوها المحافظة على خط سير محدد.. لا تكاد تختفي تحت السطح، لتظهر بعد قليل في مكان آخر. راقبتها بهدوء ورثيت لمصير أولئك السابحين على كل حال.. أحياء كانوا أم ميتين.. أحياء سيبقون أو يموتون قبل نهاية الرحلة.. هل للرحلة من نهاية!. واصلت مسيري غير عابئ بترجرج الجسر تحت قدميّ، والذي بدا وأنا في وسطه مثل حبل مشدود بغير عناية، مترجرجاً في كل الاتجاهات.. دون أن تخونني الثقة.. متذكراً في كل ثانية أنني لا أجيد السباحة... وأن عنف الأمواج أقوى من عضلاتي المرهقة.. الحافة الثانية من النهر كانت أخفض من السابقة.. وأحراشها لا تتيح نظرة سياحية للمياه. هناك كانت جماعات أو أفراد متباعدون يتخطون مسرعين.. وجوههم غير أليفة.. ونظراتهم حادة.. وبلديون جداً. لم أجد الرغبة في الكلام معهم أو إلقاء التحية.. أخيراً أفلحت في سؤال أحدهم.. كيف أصل المدينة من هنا؟؟. أشار بيده إلى النهر المضطرب وقال بلغة عادية لا يتخللها الشك: - باستخدام القوارب. - ألا توجد وسيلة أخرى؟. - على مسافة مائتي متر تجد السوق ويمكنك الاستفسار!. بقليل من الاهتمام والعناية واصلت خطواتي التقدم ، تجر أذيال الرتابة واللا جدوى. أصبحت مناظر الناس العابرين بلا أبالية وعجلة مثيرة للحنق.. المكان نفسه على سعته وامتداداته بدا مثل راحة كف بخيلة أو قفص مغلق.. أحسست بالعتمة في وسط النهار.. وريقي يابس كأنني في صحراء.. الصحراء والبحر وجهان لعملة واحدة.. العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.. تتآمر ضد الانسان. ظهرت بعض الدكاكين الصغيرة.. أشجار نخيل وفاكهة متبعثرة بغير انتظام.. صورة مقهى.. وجوه متعبة بلّلها العرق.. وعيون مسكونة بالترقب.. بعضها كان يترصدني.. لم أعبأ لشيء.. نظراتي تدور في كل الاتجاهات.. وقبل أن أسأل.. وجدت هياكل سيارات.. محل تصليح.. بالأحرى ساحة لتصليح السيارات.. وجدتها..! ركزت نظراتي على صاحب البدلة الزرقاء الداكنة المزدحمة بالشحوم والدهون والأوساخ.. السيارات متناثرة وبعضها معلقة مثل الخرفان إلى أسلاك كهربائية أو حديدية تنحدر من نقاط كهربية على جذوع النخيل.. فصل السلك من أحد السيارات.. ودفعها مسافة.. ليضع ثانية مكانها.. تشجعت لأساله.. كان صالح يقف هناك بهندامه الذي رأيته به دائماً.. يجيل طرفه وكأنه يقول غير معاتب.. لقد تأخرت!.. لم أفكر بالجواب.. قلت: - أريد أن أذهب إلى المدينة!. - سأوصلك!. لم أكن أرى سيارته.. وعيناه تتابعان العامل الذي قال وكأنه يستمع إلينا.. - السيارة في التصليح.. لا يمكنك أن تأخذها.. - جدْ لنا سيارة صالحة الآن!. - .... وبقيت عيناه تدوران بين أشلاء السيارات المتناثرة وليس بينها ما لا تشكو من علة أو ردم أو باب مقتلعة أو عجلات منقوصة أو تالفة.. عيناي تتابعان عينيه ولامبالاة العامل به.. ينتقل من سيارة لأخرى دون أن يلتفت إلينا.. بينما النهار يقترب من نهايته.. وفي كل لحظة أتوقعه سيقول: