أزمة جبهة التحرير الوطني مستمرة، وتداعيات الفشل في انتخاب أمين عام جديد ظهرت في المجلس الشعبي الوطني الذي أصبح ساحة معركة أخرى بين الإخوة الأعداء في الحزب الذي ربط مصيره بالسلطة فوقع في مأزقها وأزماتها. مجرد عقد اجتماع للجنة المركزية للأفلان أصبح مشكلة كبيرة منذ أن تمت الإطاحة بالأمين العام السابق عبد العزيز بلخادم، فقد طال انتظار إشارة من الرئيس بوتفليقة لتعيين الخليفة، وفاجأ مرض الرئيس الجميع، ليس لأن هذا العارض أجبر الرئيس على السفر إلى فرنسا طلبا للعلاج، ولكن لأن الرؤية باتت غير واضحة، ولا أحد في الحزب العتيد يستطيع أن يغامر بالسير على طريق قد يتبين بعد حين أنه لم يكن الطريق الصحيح، ففي حالة حزب مثل الأفلان هناك طريق واحد صحيح هو طريق السلطة، أما ما بقي من سبل فإنها لن تؤدي إلا إلى مزيد من التمزق الداخلي والتراجع إلى مواقع متخلفة على الساحة السياسية. كثير من الأعضاء القياديين في الأفلان لا يفهمون ما يقصده منسق الحزب عبد الرحمن بلعياط عندما يتحدث عن عدم إمكانية عقد اجتماع للجنة المركزية من أجل انتخاب أمين عام جديد، بل إن بعضهم يقر بأن الأغلبية من أعضاء اللجنة يقولون بضرورة عقدها في القريب العاجل لأن البقاء في هذه الوضعية يضر بمكانة الحزب على الساحة السياسية، غير أن الواضح أن أولوية بلعياط منذ أن تولى مهمة التنسيق، التي لا تعطيه صلاحيات الأمين العام، هي منع انعقاد اللجنة المركزية إلى حين اتضاح الرؤية بشأن انتخابات الرئاسة، وليس سرا أن هناك إجماعا في الحزب على ضرورة البقاء في فلك السلطة وانتخاب أمين عام جديد حسب متطلبات المرحلة أي أن يحوز رضا من سيتولى الأمر بعد بوتفليقة. الصراع حول رئاسة كتلة الأفلان كشف التحضير لمعركة الرئاسيات، فقد جرى اتهام بلعياط علنا باستبعاد كل الرموز المحسوبة على الرئيس بوتفليقة، وأن القائمة البديلة التي وضعها تضم مقربين من الأمين العام الأسبق علي بن فليس الخاسر في انتخابات الرئاسة سنة 2004 والذي يستعد لإنهاء حالة سبات سياسي دام قرابة عقد من الزمن، وهذه أول إشارة إلى أن معركة الانتخابات بدأت بالفعل، والاصطفافات القديمة التي ترسبت منذ انتخابات 2004 بدأت تعود إلى الواجهة مجددا في انتظار الانطلاق الفعلي للسباق الذي لن يبدأ إلا بإشارة رسمية. منذ أشهر تتداول وسائل الإعلام تسريبات عن اجتماعات يكون قد عقدها علي بن فليس مع مساعديه السابقين في آخر مغامرة سياسية خاضها، وقد تولى بن فليس على ما يبدو تسريب المعلومات مع الحرص على البقاء بعيدا عن الواجهة، فالرجل احتفظ بشبكة من العلاقات مع الصحافة التي يناصره بعض المشتغلين بها، وقد جاء الحديث عن إمكانية ترشحه على شكل تكهنات لكن جرعة المعلومات المؤكدة التي تضمنتها جعلتها أقرب إلى الخبر منها إلى الإشاعة، وقد نقل عن بن فليس قوله إنه لن يترشح لانتخابات يكون الرئيس بوتفليقة طرفا فيها، ويبدو واضحا أن هذا العائق تم تجاوزه بالفعل حيث تدل كل المؤشرات على أن الرئيس لم يسعى إلى تمديد فترة حكمه لعهدة جديدة، غير أن هذا لا يحسم الأمر. الورطة التي وقع فيها الأفلان هي أن الرسائل التي تأتي من أكثر من جهة تزيد في الغموض بدل توضيح الرؤية، فقد نقل عن محللين يوصفون بقربهم من السلطة حديث عن خيار جديد قد تعمد إليه السلطة هذه المرة، وهو دعم مجموعة من المرشحين دفعة واحدة، وهكذا قد نجد الوزير الأول الحالي عبد المالك سلال في سباق مع أسلافه الذين سبقوه إلى هذا المنصب، وهذا خيار غير آمن بالنسبة لحزب مثل الأفلان، فالذين عارضوا بلخادم لم يجرأ أحد منهم على معارضة الرئيس بوتفليقة بل اتهموا أمينهم العام بعدم الالتزام ببرنامج الرئيس وعدم القدرة على الدفاع عنه وتجنيد الجزائريين من أجل تجسيد هذا البرنامج، لكن الوضع اختلف بعد مرض الرئيس، وبالنظر إلى التجارب السابقة فإن مرشحا واحدا في النهاية هو الذي تكون له الحظوظ الكاملة في الفوز بالمنصب، والأفلان ينتظر معرفة هذا المرشح ليحزم أمره ويتجاوز أزمته، ولعل الحزب ينتظر أن تحسم الأمور على مستوى أعلى لتلقي الإشارة بإنهاء حالة الانسداد هذه. مشكلة الأفلان هي أن الأطراف المتصارعة تدافع عن مكاسب ومواقع، فالذين بقوا أوفياء لبلخادم حتى اللحظة الأخيرة يعرفون جيدا أنهم يواجهون امتحان بقاء، وهم يرغبون في لعب دور أساسي هو تقديم الدعم للمرشح الأوفر حظا لأن ذلك سيكون ضمانا لهم للبقاء في موقع قريب من السلطة، وهذا الهدف يسعى إلى بلوغه الفريق الآخر الذي يعتبر صعوده استكمالا لعملية إزاحة بلخادم، وكل طرف يريد تعزيز مواقعه تحسبا للمعركة الانتخابية التي ستطيح بمزيد من الرؤوس في الحزب وتعيد صياغة التوازنات داخله. في كل هذا هناك احتمال قد يكون مدمرا، فقيادات الأفلان، وفي غمرة الصراعات الداخلية، لم تنتبه إلى أن استمرار أزمة الحزب قد يجعل التخلي عن الدور القيادي للأفلان في الحكم من بين مظاهر التغيير التي قد تعمد السلطة إلى تقديمها للجزائريين من أجل إعطاء مصداقية للانتخابات الرئاسية ومسايرة حركية التغيير في المحيط الإقليمي لكن بطريقة إرادية تمنع وقوع هزات عنيفة قد تعرض استقرار النظام والبلاد إلى الخطر. والحقيقة أن هذا الاحتمال ليس ثمرة خيال سياسي خصب، بل هو نتاج لجملة من المعطيات القائمة على الأرض، فالتحضير لما بعد بوتفليقة يبدو أنه قد بدأ بإطلاق موجة نقد واسعة لهذه المرحلة، ومن الملاحظ أن الوزراء باتوا يشاركون في إظهار المساوئ وبشكل لم تعهده أي حكومة جزائرية سابقة، وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن خيار الاستمرارية قد لا يكون مرجحا، وبالنتيجة فإن استبعاد حزبي التحالف الرئاسي، وكلاهما يمر بأزمة عميقة وصراعات داخلية تشوه صورته لدى الرأي العام، سيكون جزء من عملية تفكيك تركة المرحلة الحالية التي تكون قد انتهت فعليا، وفي هذه الحالة سيترك الأفلان ليواجه مصيره دون أن يجد تلك القوة التي تصحح التوازنات المختلة وتعيد الاستقرار ولو إلى حين.