يقطعون ألفي كيلومتر لاستخراج شهادة ميلاد أصلية، يلهثون وراءها من أقصى الجنوب الجزائري نحو الشمال في رحلة ليست بالسهلة، هي رحلة متعبة خصوصا أن مصالح وزارة الخارجية فرضت على الجزائريين المولودين في ''غاو'' بدولة المالي أن يستخرجوا الشهادة من مصلحة القنصلية بالمرادية بالعاصمة، فضلا عن منعها استخراج هذه الوثيقة الهامة عن طريق الوكالة، لتزداد متاعبهم أكثر فأكثر.. 'البلاد'' استطلعت معاناة الجزائريين المولودين في الخارج والمسجلين في قنصلية ''غاو'' بمالي، واتصلت بالمصالح القنصلية بوزارة الخارجية الجزائرية لمعرفة خلفيات قرار حرمان المولودين في ''غاو'' والمسجلين في القنصلية الجزائرية بغاو من استخراج شهادات الميلاد عن طريق الوكالة. من برج باجي مختار إلى المرادية على مسافة ألفي كيلومتر، يقطع سكان ''برج باجي مختار'' المولودون خارج الجزائر والمسجلون ب''غاو'' الطريق بمره ومشاقه لأجل الحصول على وثيقة الميلاد رقم '',''12 منها 600 كلم على طريق رملي غير معبد للوصول إلى مدينة أدرار مما يكلفهم مسيرة يوم كامل، قبل أن يشدوا الرحال إلى الجزائر العاصمة في الحافلات أو عن طريق الطائرة التي تكلفهم مبلغ 19 ألف دينار قيمة تذكرة سفر للشخص الواحد. قبل أن تحدث سكان ''برج باجي مختار'' تتبادر إلى مخيلتك صور أولئك الجزائريين الذين يشتكون يوميا من اكتظاظ مصالح الحالة المدنية على مستوى البلديات لاستخراج وثائق الهوية وشهادات الميلاد. نعم هي حقيقة معاناة وتماطل ونرفزة وتشنج الأعصاب، ولكن عندما نستمع إلى سكان تلك المنطقة الجنوبية في الجزائر، من أقاصي الصحراء، نجد أن معاناة سكان الشمال في مصالح البلدية لا تكلف شيئا بل لا تصل إلى ثمن تذكرة طائرة من ولاية أدرار إلى مطار هواري بومدين، ثم أجرة سيارة الأجرة من المطار الداخلي نحو وزارة الخارجية بالمرادية بأعالي العاصمة والتي تكلف أكثر من 800 دينار جزائري، فضلا عن أجرة ليلة في فندق متواضع خصوصا وأن الرحلات من العاصمة إلى أدرار عددها ثلاث مرات في الأسبوع، بمعنى أن المواطن يضطر إلى المبيت ليلتين في العاصمة مجبرا ومكرها لاستخراج الوثيقة وهو ما يعني دفع ثمن غرفة بسيطة في فندق صغير قد يتعدى الألف دينار لليلة الواحدة فضلا عن المأكل والمشرب، وكلها حسابات لا يقدرها سوى من اكتوى بمشكلة يراها سكان الشمال متعبة بينما يرى سكان الجنوب وخصوصا المولودين في ''غاو'' بالقضية لأنها قاسية ولأن استخراج شهادة ميلاد يكلف أجرة شهرية، قد تصل بعملية حسابية إلى ثلاثين ألف دينار. فماذا يقول سكان الشمال عن سكان الجنوب؟ رحلة المتاعب يصل خالد إلى العاصمة بعد يومين من السفر حاملا معه عددا من الوكالات الموثقة لأهله وأقاربه وجيرانه لاستخراج شهادات الميلاد الأصلية من مصلحة القنصلية بوزارة الخارجية. لإتمام مهمة خالد فهو يضطر إلى حجز غرفة في فندق ليقيم فيه ليلة أو ليلتين حسب توقيت تذكرة الرجوع إلى أدرار أن يقيم في العاصمة ويحجز في فندق قريب من المرادية حيث توجد القنصلية، ليصل في وقت مبكر ويكون من بين الأوائل في الطابور الطويل الذي يبدأ في التراص على السادسة صباحا لوجود العشرات من أمثاله القادمين من مختلف الولايات والمدن لذات الغرض أو أغراض أخرى، حيث يتوق خالد إلى الحصول على مكان من بين الأوائل، علما أن النظام المعمول به في المصلحة هو أن يتلقى المواطن رقما انتظارا لوصول دوره في الطابور الطويل. وبعد ساعتين من الانتظار تفتح مصالح القنصلية أبوابها ليجد خالد بعد ساعة أو أكثر دوره لاستخراج شهادات ميلاده الأصلية وشهادات ميلاد أهله لكنه تفاجأ بالموظفة تبلغه رفضها استخراج شهادات ميلاد أصلية لأقاربه وباقي الأشخاص الذين يحمل توكيلا باسمهم لذلك، رغم وجود الوثائق الرسمية التي تشفع له ربما في الحصول على الشهادات. كانت الصدمة كبيرة على خالد وغيره وهو أحد الناشطين في عدة جمعيات من المجتمع المدني في برج باجي مختار، يستفسر عن السبب فتبلغه الموظفة أنها تلقت تعليمة بعدم استخراج شهادات الميلاد الأصلية لأي من الجزائريين المسجلين في القنصلية الجزائرية في ''غاو'' بمالي دون غيرهم من المعنيين بهذا القرار، لكنها لم تفسر له خلفيات القرار وأسبابه ودواعيه. هل تسمع السلطات نداءهم؟ الجمعيات الممثلة لسكان برج باجي مختار، رفعت بيانا تندد فيه بالقرار وتطالب وزارة الخارجية والوزير الأول أحمد أويحيى ووزير الداخلية دحو ولد قابلية التدخل لإنقاذهم من هذه المعاناة، التي تضاف إلى معاناتهم اليومية مع بيئتهم الصحراوية والأمية المتفشية ونقص الخدمات الصحية ونقص وسائل النقل وتكاليفه الباهظة وعزلة المكان المحاصر بالبعد عن مقر الولاية أدرار ب 800 كيلومتر منها 600 كيلومتر غير معبدة من جهة، والحدود المالية التي تتحرك فيها الرمال بالتهريب وجماعات الجريمة والتمرد في مالي. وبالنظر إلى المشاكل التي يتلقاها سكان باجي مختار، دعت الكنفيدرالية الوطنية التنسيقية للحركة الجمعوية ببرج باجي مختار التي تضم 27 جمعية ولجنة حي، تسلمت ''البلاد'' نسخة منه، السلطات لرفع هذا القرار الذي اعتبرته ''جائرا'' واصفة إياه ب''التعسفي وغير مبرر، ويزيد من متاعب السكان ومشاقهم اليومية والإدارية، ويعقّد أوضاعهم الاجتماعية''. وأضاف البيان أن هذا القرار الذي اتخذته السلطات والذي يمنع استخراج شهادات الميلاد الأصلية للأصول والفروع من العائلة الواحدة ''سيجبر مجموع الجزائريين المولودين في دول الساحل والمسجلين في قنصلية ''غاو'' بمالي فقط ''ويشير نفس البيان إلى أن عدد المتضررين من هذا القرار يقدر عددهم 16 ألف مقيم في منطقة برج باجي مختار. وطرح المصدر عن مصير المسنين والعجزة والمرضى الذين يفرض عليهم قرار المصالح القنصلية قطع مسافة تزيد عن 2000 كيلومتر للتنقل إلى العاصمة لاستخراج شهادات ميلادهم الأصلية والعادية''، أو''التنقل إلى القنصلية الجزائرية في غاو بمالي على مسافة تزيد عن 1600 كيلومتر. كما تساءل البيان عن سبب وخلفيات حصر هذا القرار في حق المولودين المسجلين في القنصلية الجزائرية بغاو المالية دون سائر القنصليات الجزائرية في بماكو أو في النيجر أو في غيرها من دول الساحل، وعليه شدد المتضررون في بيانهم على أن قرار رفض استخدام الوكالة لاستخراج شهادة الميلاد زاد من صب الزيت على النار وعقد الوضعية الإدارية للآلاف من الجزائريين المولودين في غاو المالية، وأسفر عن بقاء العديد من العائلات والأشخاص والمواليد مؤخرا دون هوية ولا وثائق لكون شهادة الميلاد أساس أي ملف إداري''. وأضاف البيان أن مشروع شهادة الميلاد الأصلية الجديدة ''أس'' 12 الخاصة بوثائق الهوية البيومترية كان يمثل الحل الأنسب لفك معضلة استخراج شهادات الميلاد الأصلية للجزائريين المولودين في الخارج، لكن السلطات الجزائرية أغلقت هذا الحل في وجه المعنيين ومنعت استخراجها أيضا بالوكالة، وألزمت أصحابها بالحضور مهما كانت مبررات توكيلهم لأشخاص آخرين. وفي الأخير استنكر بيان الكونفيدرالية الوطنية التنسيقية للحركة الجمعوية لبرج باجي مختار رفض مسؤولي المصالح القنصلية لوزارة الخارجية في العاصمة استقبال وفد عن الجمعيات المعتمدة للقاء المسؤولين وتوضيح وجهة نظرهم وحملها على أهمية إلغاء هذا القرار الذي أصبح يؤرق الكثيرين، خصوصا أمام تكاليف السفر ومعاناتهم، خاصة وأن شهادة الميلاد الأصلية أصبحت من الوثائق الهامة في أي ملف إداري، فضلا عن استعمالها في شتى المجالات. زيادة على تسجيل المواليد الجدد الذي فرض على الكثيرين من سكان تلك المنطقة النائية يلجأون إلى تسجيلهم في قنصلية ''غاو'' ويرفضون الذهاب إلى قنصلية الجزائر في ''غاو'' بسبب المشاكل الأمنية التي تعرفها الحدود الجزائرية المالية في الأشهر الأخيرة والمخاوف التي صنعتها جماعات التهريب، وهو ما جعل عمار يقول إنهم بين المطرقة والسندان أي إنهم يعيشون بين مطرقة القوانين التي تفرضها السلطات الجزائرية واختيار السفر لمدة أيام من أجل ورقة ومطرقة الوضع الأمني في الجنوب الجزائري وما انجر عنه من حالة خوف كبير لدى الجزائريين، حتى أولئك الذين رحلوا وانتقلوا إلى ولايات أخرى فالقانون يفرض عليه استخراج شهادة الميلاد من مصالح القنصلية في العاصمة دون الذهاب إلى ''غاو'' المالية. حاولنا إيجاد توضيحات بخصوص الموضوع الذي أصبح يؤرق المئات بل الآلاف من مصالح القنصلية الجزائرية بالعاصمة، وهو ما وقفت عليه ''البلاد'' خلال ذلك، حيث أكدت الموظفة في الفرع القنصلي التابع لوزارة الخارجية عند سؤالها عن ذلك ردت قائلة ''لقد ألغينا العمل بالوكالة إلا بالنسبة للأصول أي الأبناء والزوجة بالنسبة للمعني الذي يريد استخراج شهادة الميلاد. أما إلغاء الوكالة بالنسبة لهم راجع حسب تصريحها ''هو قرار رسمي يجب علينا تطبيقه بحذافيره، مؤكدة أن هناك الكثير من التلاعب بخصوص استخراج شهادة الميلاد الأصلية'' وواصلت المتحدثة أن الكثيرين ممن يأتون من برج باجي مختار وبالخصوص هذه الشهادة أصبحت بالنسبة لهم عبارة عن تجارة فالوكالة أصبحت بزنسة على حد تعبيرها. وهنا يمكن الإشارة إلى أن الوكالة التي تستخدم في استخراج وثيقة رسمية يستعملها الكثيرون تفاديا لمشاكل ومتاعب التنقل من الجنوب إلى الشمال، حيث يدفع صاحب الوكيل للموكل مبلغا معينا ليتم استخراج تلك الوثيقة ولكن الموكل أو الموكلون يحملون في جعبتهم المئات من الوكالات مما تغدق عليهم مبلغا محترما، وبالتالي فأصبحت تجارة بأتم معنى الكلمة، وهو ما دفع موظفة القنصلية، تقول إننا أصبحنا نعمل فقط معهم وإن هذا القرار جاء لإيقاف تلك ''البزنسة''. وبالرغم من أن المتحدثة تحاشت الرد عن سؤال يتعلق بمنع الوكالة لكل من سجلوا في ''غاو'' ولكن موظف آخر شدد في حديثه مع ''البلاد'' بصريح العبارة السلطات الجزائرية لها أسبابها الأمنية والإدارية والقانونية أيضا. ربما سيرفع الغبن عنهم لا أحد منا اختار مكان ولادته، لكن هؤلاء الجزائريين المتعبين قدر لهم أن يولدوا خارج الحدود في أقاصي الصحراء وهم من أبناء البدو الرحل الذين يتنقلون على طرفي الحدود بين الجزائر والمالي والنيجر أحيانا طلبا للرزق والكلأ للجمال والمواشي والمياه أيضا، ما يجبر الأولياء على تسجيل مواليدهم الجدد في أقرب قنصلية جزائرية لهم، وهي بالنسبة لسكان برج باجي مختار قنصلية ''غاو'' التي تبعد ب160 كيلومترا عن مدينة برج باجي مختار.