الجزء الثاني والأخير في الجزء الثانى من الحوار اعتبر أردوغان أن ساعة الشعوب قد حانت في العالم العربى، وأن عصر الاستبداد قد ولى، حتى قال إنه من الآن فصاعدا فإن من لا يدرك هذه الحقيقة أو يتعامى عنها، ويظن أن إرادة الشعوب يمكن أن تقهر وأن صوتها يمكن أن يحبس، فسيدفع الثمن غاليا ولا يلومن إلا نفسه، إليك ما جرى في اللقاء· (1) رحلته إلى ثلاث من دول ”الربيع العربى” (مصر ثم تونس وبعدها ليبيا) استدعت سؤالا عن قراءة تركيا لتحولات العالم العربي· شجعني على ذلك أيضا أننى علمت أن فريق عمل تشكل في الخارجية التركية لكى يتابع ويحلل ما يجرى في العالم العربي منذ لاحت نذر انتفاضة شعوب المنطقة في شهر يناير الماضي· كما أن رئيس الوزراء عزز مكتبه ببعض المثقفين والخبراء الذين يجيدون اللغة العربية، وهؤلاء ظلوا يحيطونه بدقائق ما يجرى في المنطقة صبيحة كل يوم، فضلا عن أن وزير خارجيته الدكتور أحمد داود أوغلو أصبح واحدا من أهم خبراء الشؤون العربية، وله حضوره الدائم في عواصمها وفي قلب أحداثها· سألت فقال: علاقتنا بالعالم العربي لم تعد بحاجة إلى بيان أو برهان (تركيا عضو مراقب في الجامعة العربية)· وهي تتجاوز المصالح الاقتصادية إلى آفاق أوسع بكثير طالت الرؤى الاستراتيجية والهموم المشتركة، التي تحتل قضية فلسطين موقعا متقدما في سلم أولوياتها· لذلك فإننا نعتبر انتصار الشعوب العربية انتصارا لتركيا أيضا· ذلك أن استعادة الشعوب لإرادتها وحريتها بعد مقدمة طبيعية لانخراطها في التاريخ، ومن ثم للنهوض بها والتغلب على التحديات التي تواجهها· أضاف: لقد شهد العالم متغيرات كثيرة خلال العقدين الأخيرين، وكان سقوط جدار برلين علامة فارقة في ذلك· ولكن الأوضاع في العالم العربى ظلت بعيدة عن التحولات التي شهدها العالم، بالأخص ما تعلق منها بالحريات العامة· وحين تلاحقت الثورات في العالم العربي منذ بداية العام الحالي، فإن ذلك كان إيذانا ببدء عصر الشعوب وانتهاء زمن الاستبداد· وكان ذلك هو الدرس الذى تعين على الجميع استيعابه، ولئن بدا أن البعض لم يتسلموا رسالته في الوقت الراهن، إلا أن ذلك لن يغير من الأمر شيئا، لأن عجلة التاريخ إذا دارت فسوف يتعذر إعادة عقارب ساعته إلى الوراء، حيث لن يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف· سألته عن زيارته لمصر، فقال إن تركيا تدرك جيدا أن مصر لا غنى عنها في نهوض العالم العربي أو قعوده· وإذا كان للعالم العربي أبواب عدة، فالذي لا شك فيه أن مصر هي بابه الأكبر· لذلك فإننا نتطلع إلى إقامة علاقة شراكة استراتيجية معها، وإلى توسيع وتمتين التعاون بين البلدين في مختلف المجالات الأخرى، خصوصا الاقتصادية منها· قلت: هل استشعرت تركيا أن مصر في العهد السابق تعاملت معها بدرجات من التردد والحذر؟ قال: هذا صحيح، وإن كان ذلك لم يؤثر على مجالات التعاون الاقتصادي· كما أننا حين عرضنا إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين أسوة ببعض الدول العربية الأخرى، فإن الفكرة قوبلت ببعض التحفظ، مما دفعنا إلى طرح بدائل أخرى تيسر على أصحاب المصالح في مصر دخول تركيا وقتما يشاؤون· وفي كل الأحوال فإننا ظللنا نتفهم الموقف المصري ونقدر وجهة النظر التي يعبر عنها· وبعد قيام الثورة واستعادة الشعب قراره وإرادته فإننا نرى أن مصر صوبت مسيرتها واختارت الطريق الصحيح للتقدم والنهضة، الأمر الذي يفتح أمام العالم العربي طريق الأمل والتفاؤل· (2) لست متأكدا من أن السيد أردوغان كان مهموما بالحالة السورية طوال حديثه عن العالم العربي وضرورة الانصات إلى صوت شعوبه وأفول نجم الاستبداد فيه، لكني كنت أعرف أن الرجل ظل طوال الوقت طرفا في أزمة سوريا، وأنه خلال الأشهر الستة الماضية كان على اتصال دائم ومباشر مع الرئيس السوري بشار الأسد· وان الحوار الهاتفي بين الرجلين اللذين ارتبطا بعلاقة شخصية وعائلية وثيقة، توقف منذ أربعة أسابيع· وأن ظل الملف السوري حاضرا على مكتبه· كنت أعرف أن وزير الخارجية التركي نقل إلى القيادة السورية رسائل عدة (خمس على الأقل) بدأت بالتنبيه وانتقلت إلى النصح وانتهت بالتحذير من عواقب التعامل الأمني القاسي مع الجماهير الغاضبة في سوريا· سألته عن سوريا فلمعت عيناه، وقال إن علاقاتنا معها كانت على أفضل ما تكون، والتعاون بين بلدين شمل كل المجالات، كما أن التفاهم كان على مختلف المستويات· لكن الأمور بدأت تتغير بيننا حين خرج السوريون إلى الشوارع معبرين عن غضبهم ومطالبين بإصلاح أحوال البلد بما يرد للمجتمع اعتباره ويتيح له أن يمارس حريته· وقد أثار انتباهنا أن المطالبات الشعبية السلمية قوبلت بالقمع من جانب الأجهزة الأمنية· إلا أن ذلك القمع لم يثن الجماهير السورية عن عزمها، وإنما تحول إلى وقود أجج الغضب وضاعفه، وللأسف فإن السلطة واجهت الغضب المتزايد بمزيد من القمع الذي أدى إلى إسالة الدماء السورية في الشارع، وحين حدث ذلك فإننا بدأنا في التشاؤم، لأن دم المواطنين حين يسيل، فإنه يكتب الأسطر الأولى في شهادة وفاة النظام، وكل نقطة دم أخرى تضيف سطرا جديدا في شهادة النهاية· حينذاك تم الاتصال الأول بخصوص الأزمة مع الرئيس بشار، الذي تحدث عن أن بلاده مستهدفة من قوى خارجية، ووعد باتخاذ الإجراءات التي تكفل تهدئة الأوضاع والاستجابة لطلبات الإصلاح المنشود· في أعقاب هذه المكالمة تم إيفاد وزير الخارجية التركي إلى دمشق، لكي يثبت ما تم الاتفاق عليه في الاتصال الهاتفي، ويتفهم الموقف على الطبيعة· أضاف أردوغان قائلا إن ما حدث على الأرض في سوريا، جاء مخالفا لما سمعناه من وعود، حتى أدركنا في نهاية المطاف أن الآلة القمعية لا تريد أن تتوقف، وأن غضب الجماهير السورية يتزايد ويستمر في ثبات وشجاعة· الأمر الذي يؤكد أنه لم يعد ممكنا إسكات صوت الشعوب بالقمع والسلاح· كررنا الاتصال والنصح، وتمنينا أن تحل الأزمة بالحوار مع المعارضة السلمية، ولكن أمنياتنا تبخرت بمضي الوقت· لكننا لم نيأس ودعونا الرئيس السوري إلى اتخاذ خطوات محددة لإنقاذ الموقف هي: - سحب الأسلحة الثقيلة من المدن وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين إنهاء حالة الطوارئ في الواقع وليس الاكتفاء بإلغاء القانون دون أي تغير في السياسات المطبقة إنهاء احتكار حزب البعث للسياسة وفتح الباب للتعددية السياسية· إطلاق الحريات العامة وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات· سألته: ماذا كان الرد السوري؟ قال: ظللنا نسمع وعودا ولا نرى لها حضورا على الأرض· قلت الرئيس عبدالله غول قال أنه فقد الأمل في إصلاح النظام السوري· قال: ليس هذا رأيه وحده للأسف، ولكنني أيضا أشاركه هذا الشعور باليأس· قلت: هل يمكن أن يكون هناك إمكانية لانقاذ الموقف بعد قتل نحو ثلاثة آلاف مواطن سوري، فضلا عن إصابة واعتقال آلاف آخرين·قال: لن نكف عن السعي والتحرك ما استطعنا إلى ذلك سبيلا فسوريا، بالنسبة لتركيا ليست بلدا عاديا· ولكنها جار نشترك معه في حدود بطول 910 آلاف كيلومتر وبيننا وشائج ومصالح مشتركة يتعذر تجاهلها· وإلى جانب أن رهاننا الحقيقي والنهائي على الشعب السوري، إلا أننا ندرك جيدا أن استقرار الوضع هناك جزء من أمننا القومي، لا نستطيع أن نتجاهل استحقاقاته لذلك فإننا لا نخفي قلقنا على سوريا وخوفنا من سيناريوهات مستقبلها· قلت: ما هو السيناريو الأسوأ الذي يقلقكم؟ قال: أخشى أن ينتهى الأمر بإشعال نار الحرب الأهلية بين العلويين والسنّة· ذلك أننا نعلم أن النخب العلوية تهيمن على مواقع مهمة في السلطة وفي قيادة الجيش والأجهزة الأمنية، وأن يتجه غضب الجماهير إلى تلك النخب ليس فقط باعتبارها أداة السلطة في ممارسة القمع، ولكن أيضا بصفتها المذهبية· وللأسف، فإن النظام يلعب الآن بتلك الورقة الخطرة، لأن بعض المعلومات المتسربة تشير إلى أن نسبة قليلة ممن يوصفون ب(الشبيحة) ينتمون إلى الطائفة العلوية، وهو ما يعمق الفجوة بينهم وبين الأغلبية السنية، ويثير ضغائن لا علاقة لها بالانتماء المذهبي، وإنما زرعها وغذاها الصراع السياسي الذي اتسم بقصر النظر، حتى بدا أن السلطة فيه مستعدة لإشعال حريق كبير في البلد، لكي تستمر· والحل؟ هكذا سألت فرد قائلا: منذ اللحظات الأولى دعونا الرئيس بشار الأسد لأن ينصت إلى صوت شعبه وأن يقرأ بعناية التطور الذي حدث في العالم العربى، لكنه لم يفعل للأسف، ولن نمل من تكرار هذا المطلب على مسامعه· ثم إننا لا نرى أملا في الخروج من الأزمة طالما أبقى الرئيس السوري على أغلب المحيطين به الذين يصرون على استمرار سياسة القمع والقهر وكسر إرادة الشعب السوري· وإذا لم يخط هذه الخطوة، فإن الرئيس بشار شخصيا هو الذي سيدفع الثمن· (3) قلت: الآن تقف إيران داعمة ومساندة لسوريا، والهجوم الإعلامي على تركيا لم يعد مقصورا على الأبواق السورية، ولكن بعض الأقلام الإيرانية أسهمت فيه أيضا· لكننا فوجئنا في الأسبوع الماضى بالرئيس الإيراني أحمدى نجاد يدعو سوريا لأول مرة إلى عدم استخدام العنف ضد شعبها، مما يوحى بأن ثمة تحولا نسبيا في موقف طهران·· كيف تقرأ هذه الصورة؟ قال: على المستوى الرسمي لم تتأثر علاقاتنا بطهران، علما بأن العلاقات الاقتصادية تحتل حيزا كبيرا في مبادلات البلدين· فإيران تعد المصدر الأول للغاز الذى تتلقاه تركيا، كما أن التبادل التجارى بين البلدين يصل إلى 10 مليارات دولار، وثمة اتفاق بين بلدينا على الارتفاع به إلى 15 مليار دولار في عام 2015 · أضاف إنه من ناحية ثانية، فإن التراشق الإعلامي الحاصل يظل في الحدود المحتملة، ثم أنه لم يتحول إلى موقف رسمي أو خطاب عبرت عنه الحكومة· ف قلت: هل لاحظت تحولا نسبيا في لغة رئيس الجمهورية الإيرانية إزاء سوريا؟ قال: نعم لاحظته، وأحسب أن لتركيا دورا في تصويب الخطاب الإيراني، لأن بين بلدينا اتصالات ومشاورات مستمرة، أوضحنا لهم خلالها العواقب الوخيمة التى يمكن أن تحدث لسوريا في ظل استمرار السياسات القمعية الراهنة· ودعوناهم إلى المراهنة على الشعب السورى والثقة في مواقفه· وقلنا لهم صراحة لا تدللوا النظام السوري حتى لا يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه ويأخذكم معه، ولكن انصحوه قبل فوات الأوان، وحيث لا ينفع الندم· وما تحدث به الرئيس أحمدي نجاد كان من قبيل النصح الذي دعونا إليه· ختم أردوغان إجابته بقوله إن وزير الخارجية أحمد داود أوغلو سيزور طهران قريبا لمواصلة التشاور حول الوضع السوري· وبعده بقليل سأقوم بزيارة طهران ولقاء مسؤوليها، لحسم بعض الأمور العالقة وتعزيز مجالات التعاون بين البلدين· (4) سألته كيف تقرأ الحاصل في ليبيا الآن، خصوصا إن تركيا كانت لها مصالح اقتصادية هائلة مع نظام العقيد القذافي؟ قال: القذافي لم يستوعب جيدا ما حدث للرئيسين مبارك وزين العابدين بن علي· ومصالحنا كانت ولا تزال مع الشعب الليبي بصرف النظر عن نظامه· وحين كان علينا أن نختار بين الوقوف مع النظام وبين مساندة الشعب الليبي، فإننا حسمنا خيارنا إلى جانب الشعب· قلت: ما رأيك في تدخل حلف الناتو والدور الذي قامت به الدول الغربية في إسقاط نظام القذافي· وهل تعتقد أن ذلك التدخل بريء وأن الغرب لا ينتظر مقابلا من نفط ليبيا وعقود إعمارها؟ قال: سأختصر ردي في نقطتين، الأولى، إننا ضد التدخل الدولي في ليبيا· والثانية، إننا نعتبر أنه لا حق للدول الغربية في النفط الليبي ولكنه ملك خالص لشعبها· وأضيف أن فرنسا حاولت أن تقوم بدور منفرد في ليبيا بدعوى مساندة الثورة، وأصبح لها وجودها على الأرض هناك، لكن هذا المسعى لم ينجح، خصوصا بعد تدخل حلف الناتو· حتى مؤتمر باريس الذي دعت إليه الحكومة الفرنسية لم يحقق النجاح الذي كان مقدرا له· قلت: حلف الناتو يجسد التدخل الدولي، ثم إن تركيا اشتركت في مساندة الثورة؟ قال: كانت هناك مشكلة أحدثها نظام العقيد حين أصر على مهاجمة الذين عارضوا نظامه، واستخدم في ذلك الأسلحة الثقيلة التي عرّضت حياة المدنيين للخطر· وتمثلت المشكلة في أن الثوار كانوا مخيرين بين التعرض للإبادة من جانب قوات القذافي وبين الاستعانة بقوات حلف الناتو، وكأنه كان اختيارا بين شرين، شر أكبر تمثل في التعرض للإبادة وشر أصغر تمثل في الاستعانة بغطاء الحلف· وقد اختار الليبيون الشر الأصغر· أما بالنسبة لإسهام تركيا فنحن نرفض بشكل قاطع استخدام السلاح التركي ضد أي مواطن ليبي أو أي عربي· وقلناها صراحة في البداية· لذلك فإن إسهام تركيا باعتبارها عضوا في الحلف ظل مقصورا على دائرة المعلومات دون غيرها· قلت: هل دخلت تركيا في سباق التنافس على إعمار ليبيا؟ قال: كانت لنا عقود سابقة سنستأنف العمل في تنفيذها· وخطوط الطيران بين بلدينا سوف تستأنف خلال أسبوع· وإذا ما استقرت الأوضاع تماما في ليبيا ستعود العلاقات إلى حالتها الطبيعية، لأن وجودنا لم يكن طارئا· فلا هو مرتبط بتوقيت معين ولا بنظام معين· (5) أخيرا قلت للسيد أردوغان: هل تعتقد أن سياسة ”تصفير المشاكل” (بمعنى إنهاؤها والنزول بها إلى درجة الصفر) التي حمل لواءها الدكتور أحمد داود أوغلو طوال السنوات الماضية لاتزال قائمة على الأرض، أم أنها تحتاج إلى مراجعة في ضوء المتغيرات الحاصلة في خرائط المنطقة؟ في رده قال إن الدعوة إلى إنهاء المشاكل لا تعني أننا سنعيش بلا مشاكل· ولكنها تعني تهدئة المشاكل أولا بأول، لأننا لا نستطيع أن نستمر في التنمية أو التقدم بينما المشاكل تلاحقنا وتحيط بنا من كل صوب· بالتالي فهذه الدعوة ليست إجراء وقتيا ينصب على مرحلة بذاتها، ولكنها سياسة مستمرة تلتزم بها لتأمين مسيرتنا وعلاقاتنا مع جيراننا ومع العالم· فعلاقتنا كانت ممتازة مع سوريا مثلا· ولكن التطورات التي حدثت على الجانب الآخر أشاعت حالة من الفتور والتباعد بين البلدين، الأمر الذى سيكون حافزا لنا في المستقبل لترميمها وإعادة الحيوية إليها· وهذا هدف التصفير الذى ندعو إليه، الذى لا يسمح بتفاقم أي مشكلة وإنما يسعى دائما إلى احتوائها والتقليل من تداعياتها السلبية· لما سألته: هل الجولة الحالية في دول الربيع العربي تدخل ضمن مساعي التصفير قال ضاحكا إن التقريب هدفها· حيث لا توجد مشاكل تقتضي التصفير·