لا تزال قضية غياب طبقة سياسية واعية، هاجسا ينغّص حياة الجزائريين، إذ لا يمكن للدولة الجزائرية أن تنطلق في نهضتها الشاملة، إلا بظهور أحزاب سياسية قوية ببرامجها وبأفكارها، تمكنها من طرح البدائل، أثناء التداول على السلطة وفق إرادة الشعب الحرة. كما أن بناء مؤسسات الدولة مرهون بظهور طبقة سياسية ناضجة تملك القدرة على بناء خلايا التفكير، هدفها استشراف المستقبل بكل معطياته المحلية والدولية، واقتراح الحلول العملية لمشاكل المجتمع الكثيرة. ومما لا شك فيه أن تحقيق ذلك مرهون بالربط بين الفكر السياسي النظري، وبين الممارسة السياسية الميدانية، وبعبارة أخرى فلا بد من التواصل بين الجامعة المنتجة للأفكار، والأحزاب الممارسة للسياسة في الميدان. وقد أدى غياب التواصل بين هذين الطرفين إلى إنتاج ما اسميه ب «الدروشة السياسية»، التي تخرّب ولا تبني، وتقدم المنافع على المبادئ والقيم وخدمة الصالح العام، وتفسح المجال أمام النصابين والمحتالين والمضاربين، الذين يخادعون الرأي العام بالخطاب الشعبوي المعسول، الضارب على أوتار الوطنية أحيانا، والدين والتاريخ والثقافة أحيانا أخرى. هذا وقد صار لزاما علينا (حكومة وشعبا) أن نعمل من أجل توفير الشروط الضرورية لميلاد هذه الطبقة السياسية الواعدة، التي بدونها سنفقد حلقة هامة في صيرورة التطور. واعتقد أن بداية هذا المسار الجديد تنطلق من إفصاح أهل الحل والعقد عن إرادة سياسية للتغيير الحقيقي، يعبَّر عنها بسلسلة من الإجراءات العملية التي من شأنها أن تخلق جوا من الثقة لدى الجمهور العريض، أولها فتح المجال الإعلامي فتحا كاملا وصحيحا، يساعد على إيجاد منابر تنويرية، تقدم للرأي العام مناقشات هادئة، على أساس تدافع الأفكار بالرأي والرأي الآخر. ولا شك أن ذلك سيساعد على التمييز بين «التعاطي السياسي الصحيح» الهادف إلى بناء مستقبل الجزائر وفق الآليات الديمقراطية، وبين «الفهم السقيم» للسياسة الذي أوردنا موارد البوار. وسيبقى العمل السياسي غير ذي أهمية، طالما عُطّل مبدأ «التداول على السلطة» ويجب أن يدرك الجميع أن هذا المبدأ يندرج ضمن أركان الديمقراطية، يعطي الفرصة لجميع الأطياف السياسية، للتنافس بشرف في خدمة المصالح العامة، ويقضي على الفساد الذي نخر مفاصل الدولة، لأن «التداول» سيجعل السلطة القضائية في وضع مريح لتطبيق القانون. وأكثر من ذلك سيعمل على تجفيف منابع التطرف الذي يتغذى من ذهنية احتكار السلطة، التي لازمت نظامنا السياسي منذ استرجاع السيادة الوطنية، حتى جعلت الكثير من المسؤولين يتصوّرون أنهم خلقوا ليكونوا حكاما مدى الحياة، في حين أن الشعب قد خلق ليكون قاصرا مدى الحياة. إن الطبقة السياسية الفاعلة والنافعة، يجب أن تؤسس حول الأفكار، بدل الالتفاف حول الأشخاص الذين سرعان ما يختزلون أحزابهم في شكل «طائفة secte»، يتحوّل فيها المناضلون إلى مريدين يسيرون على قاعدة «اعتقد ولا تنتقد»، وسياسة {ما أريكم إلا ما أرى. وأدى هذا الوضع إلى انشطار أحزاب عديدة، وإلى تبخيس العمل السياسي، فترك ذلك انطباعا سيئا لدى الرأي العام. ومن واجب الطبقة السياسية (حكومة ومعارضة) أن تعترف باستقلالية المجتمع المدني، الذي عليه أن يقوم بدور السلطة المضادة، التي تعني مراقبة السلطة السياسية حتى لا تنحرف عن مهامها الأساسية المتمثلة في خدمة الصالح العام. وعليه فإن ما كانت تقوم به الجمعيات ذات الطابع المدني من أدوار مساندة للسلطة السياسية هو عين الانحراف. إن الربيع السياسي الذي فتح ثغرة في جدار الاستبداد العربي، جدير بأن يجعلنا نستخلص منه العبرة، لأن رياح التغيير قد هبّت، ولا مجال لتفاديها، وكل ما في الأمر، هو أن نختار بين التغيير السلس الذي سيأخذنا نحو بر الأمان، أو التغيير بالتي هي أسوأ – لا قدر الله- يضع مستقبلنا على كف عفريت. فمتى سنردم الهوة السحيقة بين الممارسة السياسية الموجودة، وبين ما ينبغي أن تكون عليه الممارسة المنشودة؟