يحاول الروائي الجزائري “الفرانكفوني” عبد القادر جمعي اكتشاف جوانب خفية في حياة مؤسس الدولة الجزائرية في روايته الأخيرة “عبد القادر الجزائري.. الليلة الأخيرة” الصادرة عن دار النشر الفرنسية “سوي”. ولا يعد النص ليس رواية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإن لجأ فيه جمعي إلى السرد الروائي المصبوغ بشعرية عالية، ولا هو بحث علمي، وإن ارتكز على معطيات تاريخية ومراجع علمية غزيرة يذكرها الكاتب في نهاية الكتاب. ويمكن القول عن هذا النص، وفق عرض قدمه موقع “الجزيرة نت”، إنه مقاربة سردية فريدة تقع بين واقع وخيال، وغايتها ولوج شخصية الأمير عبد القادر وفهم طبيعتها الفذة. وكما يشير إليه العنوان، يشكل هذا النص أولا محاولة جريئة ومثيرة لإدراك المشاعر التي تملكت الأمير في ليلته الأخيرة في وطنه قبل أن ينفى إلى فرنسا ثم إلى سوريا. لكن جمعي لا يتوقف عند هذا الحد فيه، بل نجده يستخدم هذه الليلة المريرة من حياة الأمير ذريعة أو حاملا للعودة إلى الوراء أو السير إلى الأمام ومقاربة أبرز محطات حياته الغنية بالفصول والإنجازات. ويستحضر، على طريقة التذكر ودون أي احترام للتسلسل التاريخي للأحداث، سفر الأمير عام 1827 برفقة والده إلى مكةالمكرمة والمدينة المنورة للحج وإلى القدس والقاهرة والإسكندرية ودمشق وبغداد، وحفلة المبايعة وقيادة الجهاد عام 1832. كما يتناول جمعي الفظائع التي ارتكبها الجيش الفرنسي منذ وصوله إلى الجزائر عام 1830، وعلى رأسها تدمير مدينة الزمالة النقالة أثناء غياب الأمير عنها عام 1834، والمعارك الكثيرة التي قادها على مدى 15 عاما ضد هذا الجيش، وتجلت فيها شجاعته وإستراتيجيته الحربية التي تعكس عبقرية قتالية كبيرة ارتكزت على الحركة والسرعة ونصب الكمائن وامتدحها جميع الجنرالات الفرنسيين الذين واجهوه، وعلى رأسهم “الجنرال بيجو”. ولأن الأمير عبد القادر لم يكن فقط قائدا عسكريا موهوبا فحسب، بل إنسانا؛ بقي وفيا لمبادئه وقيمه كمؤمن، حتى في مواجهته للمستعمر، يتوقف جمعي أيضا عند معاملته الإنسانية للجنود الفرنسيين الذي وقعوا أسرى في يده، مذكرا بالرسالة التي وجهها عام 1938 إلى “المطران دوبوش” وطلب منه فيها إرسال كاهن إلى معسكره للصلاة مع السجناء وكتابة رسائل تطمين لأهاليهم وتلبية حاجاتهم الروحية والمادية. ولا ينسى جمعي الإنجازات المدنية المهمة للأمير عبد القادر وجهوده الدؤوبة لتحديث إمارته، كتشييده العاصمة الصحراوية “تكدمت” عام 1836 التي سيدمرها الفرنسيون عام 1841 ومد إمارته بنظامٍ إداري وقضائي قوي وصكه عملة “المحمدية” ووضعه مشروع تأسيس جامعة على طراز جامعة “الزيتونة” في تونس وجامعة “القرويين” في “فاس”، وإقامته علاقات دبلوماسية مع إنجلترا والولايات المتحدة. في السياق ذاته، نقرأ في هذا النص، وفق تقرير “الجزيرة”، صفحات جميلة يرصدها جمعي لثقافة الأمير عبد القادر الواسعة ويتحدث فيها عن مكتبته الضخمة، التي ضمت مئات المخطوطات وتجاور فيها المفكرون العرب والمسلمون الكبار، مثل ابن سينا والغزالي وابن طفيل وابن رشد، مع “أفلاطون” و”أرسطو” و”فيثاغورث”. كما يتحدث عن تعمق الأمير بالفكر الصوفي والعلوم الإسلامية وعلم الفلك والجغرافيا وعن تشجيعه ترجمة الأعمال الأدبية والفكرية وتعلم اللغات الأجنبية واهتمامه بالتقدم في جميع أشكاله، دون إهمال القصائد التي ألفها والكتب التي وضعها، مثل “كتاب المواقف” الذي يتضمن التعاليم التي درسها على مدى ربع قرن في مسجد الأمويين بدمشق. وتعكس هذه النصوص بحثه الصوفي الذي يشكل خير امتداد لفكر المتصوف الأندلسي الكبير ابن عربي. من ناحية أخرى، خصص الكاتب في روايته قسما كبيرا لإظهار انفتاح الأمير على الآخر وإبراز دعوته الثابتة إلى حوار الأديان والتعايش السلمي بين الشعوب، متوقفا عند بعض أفعاله النبيلة، كقيامه عام 1860 بإنقاذ مئات المسحيين الشرقيين أثناء المذابح التي تعرضوا لها على يد “الدروز” في دمشق وجبل لبنان. وهذا السلوك حياه معظم أباطرة أوروبا وأمراؤها و”البابا بيوس التاسع” والسلطات الفرنسية نفسها، التي منحته “الصليب الأكبر لوسام جوقة الشرف” وصكت ميدالية حفر عليها “الأمير عبد القادر، جوغورتا حديث، استطاع هزم إحدى أقوى دول المعمورة.. فرنسا التي حاربها تحبه وتبجله”. ولتفسير سلوك الأمير تجاه مسيحيي دمشق، يستحضر جمعي رده على رسالة “المطران بافي” الذي عبر له فيها عن امتنانه وإعجابه به “لقد وصلتني رسالتك البليغة.. الخير الذي فعلناه مع المسيحيين كان من واجبنا القيام به وفاء لإيماننا المسلم واحتراما لحقوق البشرية.. جميع الكائنات هي من عائلة الله.. جميع الديانات التي أتى بها الأنبياء، منذ آدم وحتى محمد، ترتكز على مبدأين.. تمجيد الله العلي والرأفة بمخلوقاته، وخارج هذين المبدأين لا توجد سوى تفرعات لا قيمة للتباينات حولها”.