يصعب التصديق بأن تمارس الأم التي احتضنت مولودها تسعة أشهر في أحشائها و سهرت عليه الليالي و تجرعت الألم و الشقاء من أجل أن تراه يشب بين عينيها، تمارس عليه العنف و التعذيب سواء بنية حسنة أو غيرها، لكن هذا السلوك أصبح ظاهرة نلمحها كل يوم ، في كل مكان و في كل مناسبة. زهية بوغليط انقلبت الآية من عنف الأب إلى عدوانية الأم كثرت مشاهد سوء معاملة الأم لأولادها ، و انقلبت صورة الأم الحنونة و المتسامحة إلى الأم العنيفة و العدائية التي تتربص بتصرفات أطفالها و تحاسبهم على كل كبيرة و صغيرة ، مثلما تترقب زلّاتهم، فبعدما كان هذا السلوك ينطبق على الآباء الذين عرفوا منذ القدم بصرامتهم و عدم تسامحهم مع الأولاد، تبادلت الأدوار معه و تمادت في صرامتها ،لتتحول تصرفاتها إلى سلوك عدواني و عنيف يسيئ للطفل، و في كثير من الأحيان تقوم بمعاقبته لأتفه الأسباب، ففي نظرها أنها تقوم بتقويم سلوك طفلها و تهذيبه ليس إلا ، حتى يشبّ جادا و ناجحا في حياته، سيدة التقينا بها و هي بصدد ركوب الحافلة بالعاصمة، تفاجأ الجميع حينما همّت بضرب طفلها الذي لم يتعدى 5 سنوات ، كونه أسال علبة الياوورت على لباسه ، جنّ جنونها و انقضّت عليه كما ينقض الوحش على فريسته، متناسية أنه طفل بريئ مسلوب الإرادة و القوة ، لا حول و لا قوة له ، و الغريب في الأمر أن ذلك الطفل لزم الصمت و قبع في مكانه، و ملامح الخوف و الرعب بادية على وجهه، حينها حاولت امرأة كانت بالمحطة تهدئتها بدافع حماية ذلك الطفل ،فأجابتها بحدّة أنه بحاجة للتربية و تحسين سلوكه . سيدة تصبٌّ في ابنها نار غضبها و سخطها من الواقع و في كثير من الأحيان تكون العدائية التي تمارسها الأم على أولادها نتيجة لجملة الضغوطات و المشاكل التي تحيط بها، فتصب نار غضبها عليه لأتفه الأسباب و دون وجه حق، إذ تفقد حينها صوابها و تتناسى أن بين يديها أمانة مسؤولة على مصيرها ، و أنها ستسأل عنها يوم القيامة، حدثتنا الحاجة زينب التي تبلغ من العمر 73سنة، عن استيائها الشديد و تذمرها من تصرفات كنتها التي وصفتها بالمجنونة قائلة: " كنتي لا تعرف في قلبها الرحمة و لا الشفقة ، فهي تصبّ كامل غضبها على حفيدي انتقاما مني و نكاية في، لأنها تعلم جيدا أنني أحبه لدرجة البكاء من أجله، فهي لا تقوى على إخراجي من منزلي و لا تطيق وجودي ، فتقوم بضربه ضربا مبرحا، و حينما أتكلم معها تقول لي أنه ابنها و لا دخل لي فيه"، في تلك اللحظات تتمنى السيدة زينب لو أن لها مكانا آخر تذهب إليه حتى لا ترى حفيدها يتجرّع العذاب و الآلام و هو لا يزال طفلا بريئا، من جهة أخرى قد يصبح هذا السلوك العنيف عادة لدى الكثير من النساء اللواتي أدار لهن الزمن ظهره و عانينّ من قهره و ظلمه، لتصبح الحياة بالنسبة لهن جحيما لا يطاق، فيحاولن الانتقام لوضعهن بكل ما أتيحت لهن من وسيلة، أمثال السيدة" ف" التي تبلغ من العمر 42 سنة، طلقها زوجها و تركها تتحمل مسؤولية أولادها الأربعة ، تسرد لنا هذه السيدة بمرارة عن حياة الفقر و الذل التي تعيشها في بيت أهلها ، دون أن تجد من يقف إلى جانبها و يمنحها الدعم ، خاصة بعد وفاة والديها، كل هذه الظروف جعلها عدائية و لا تشعر بنفسها إلا و هي تصرخ في وجه أولادها دون سبب وجيه لذلك، و في بعض الأحيان تنصب عليهم ضربا مبرحا ، و عندما تنتهي من كل ذلك تضيف محدثتنا ، أنها تجهش بالبكاء و يعتصر الحسرة قلبها من شدة الندم على ما اقترفته في حق أولادها دون أي ذنب . كما أن عامل تعقد الحياة العصرية و اقتحام المرأة عالم الشغل و انشغالها بمسؤوليات أخرى، جعل من المرأة من الصعب عليها التحكم في الوضع و في أعصابها ، هذا ما صرحت لنا به السيدة صباح، 35 سنة ، و هي أم لولدين ، و التي تعيش مشاكل مع زوجها قائلةّ : " بسبب انشغالي و ضيق الوقت أصبحت جد عصبية و لا أتحكم في تصرّفاتي، خاصة في الصباح حينما أتأهب للذهاب للعمل، فتجدني أعامل ولديا بطريقة عنيفة و عدائية ، لدرجة أنني أضربهما في بعض الأحيان، و كل هذا بسبب الضغوطات التي أعيشها مع زوجي و مشاكل العمل ". .. حتى الرضع لم يسلمن من بطشهنّ أصبح تذمر الأمهات لا يقتصر فقط على أولادهم الذين اشتدّ ساعدهم و أصبحوا في مرحلة يميزون فيها بين الخطأ و الصواب، بل تعدى بهم الأمر إلى محاسبة من لا يزال الحليب في أفواههم ، حتى أنهم يتذمرون من تصرفاتهم، هي حالات لأمهات لا يستحقن الأمومة و لا يدركن قيمة النعمة التي وهبهن الله سبحانه و تعالى، في الوقت الذي كان الطفل يبحث عندها عن الأمان و الطمأنينة أصبح يتهرّب منها ، وتعترف أم لثلاثة أطفال لا يتعدى أصغرهم السنتين ، بأن أبناءها مشاغبون جداً، فهم دائمي الصراخ، حيث تقول : أعود من عملي كل يوم وأنا منهكة من التعب ، لأجد الصراخ والشجار والشغب، فيدفعني هذا إلى أن أضربهم بطريقة هستيرية و لا أشعر بنفسي ، لكنى أندم وأبكي لبكائهم ، وأعد نفسي أن لا أكرر ذلك مرة أخرى، كما حدثتنا الآنسة نضيرة عن شقيقتها التي ضربت الرضيع مخلفة آثار الصفعة على خدّه، وعند عودة زوجها من عمله و ملاحظته لآثار يدها طلب منها الرجوع إلى بيت أهلها ، كونه لم يتصور أن طفلا في عمر ابنه يمارس عليه العنف، و لولا تدخل أطراف وسيطة لكان الطلاق مصيرها . نفسانيا: الظاهرة تنتج أفراد عدوانين خطيرين على المجتمع و يبقى ضرب الأبناء و ممارسة العنف عليهم أسلوب يتبعه الكثيرون في تربية أبنائهم، لكنهم مع مضي السنين يكتشفون عظم الخطأ الذي ارتكبوه بهذا النوع من التربية التي انعكست نتائجها بشكل سلبي على أبنائهم ، سواء نفسيا أو على التحصيل العلمي لدى الأطفال في المدارس، و يؤكد الأخصائيون النفسانيون أن اعتماد الضرب ، من شأنه أن ينتج في النهاية أطفالاً عنيدين وعدوانيين ، حيث أن الكثير من الأطفال الذين يتعرضون للضرب يحاولون ممارسة هذا السلوك على من هم أصغر منهم داخل المنزل، كما أن عادة ضرب الأبناء تعمل على إيجاد جو متوتر داخل المنزل ، قد ينشىء عنها أشخاص غير أسوياء يضرون بالمجتمع ، و من أجل القضاء على هذه الظاهرة ينصح المختصون بتكثيف إنشاء مراكز اجتماعية في الأحياء، و إنشاء مكاتب توعية في المحاكم الشرعية، لتوعية الأقارب بأهمية هذا الأمر و خطورته، و يبقى للوازع الديني و الأخلاقي و الإنساني دوره في القضاء على هذه الظاهرة و تهذيب النفوس .