في كلتا المرّتين اللتان زرنا فيهما كائنا جميلا من أزمنة القصيدة، كان السّؤال الذي زاحم ذهني يدور حول مجلسية الشّعر، ومعنى أن يكون للشّعر حفاوة، جلسة شاي أو سمر في ضيافة شاعر لا يمكن أن يترك زائريه دون أن إكرامهم بعشاء فاكهته الشّعر والمسار الحزين للقائه (الشّعر) بعد فراق، عاشق يعود إلى معشوقته، محفوفا بلهفة الذوق يحتفي به، لحظة تتجلى فيها أجراس فروسية تُدقُّ، ما تبقى من قصيدة هرّبتها أضمومة تساير وجوديتها عبر أرقام تؤرّخ لزمن كتابة مضى وخلّف رنينا للأقدار تبعثه متى شاءت، هل استسلم الشّاعر لقدر الغياب؟ بوعزّة حيموري، شاعر استنهض عطش الكلمة وأغرق القصيدة المبتعثة بعد غياب في نهر الإصاتة، بعد أن انفتح وارتاح إلى أفق السّماع، كنّا في حضرته، الأستاذ امحمد بن عربية، عاشق اللغة والسّامع لحفيف البحور في عروق القصيدة، الأستاذ محمد بصري، قنّاص المعنى في أوردة النص، الأستاذ عبد الكريم رحموني، البديع في رواية الشّعر وبسط المفاهيم في مسار النص وحميد بصري، الشّاعر والمختص في السّمعي البصري، القائم على أشهاد الكلام والعميق في تحليل الشّارد والوارد. بعد ان تربّعت صينية الشاي عرش "القعدة"، واختلطت أنفاس الكلام بين ضيوف القصيدة، كان الهاجس الأوّل هو مجلس الشّعر، وهل مازال من معنى لأن يجتمع نفر من النّاس لا يصل بينهم شيء سوى سماع نبض القافية، يبدو أنّ السّؤال كان جدّ ملح إلى درجة أنّ الآراء اختلطت حول هاجس غربة القصيدة في زمن التحوّل نحو المباهج اللامعة، فعلا لم يعد للمجلس بمفهومه الشّعري وهج، لأنّ موقد الشّاعر أمام خيمته لم يعد يجلب أنظار المارّة على رصيف الحياة، لكنّ الثّابت في قعدتنا تلك هو أنّ شاعر من أزمنة الفروسية، استطاع أن يجمع وجوها تتذوّق وتتعالق مع حفيف المعنى في بطن "بيت الشِّعر": لا أرغب الورد والرّيحان مزرعتي لو لم يداج الحنايا بخل مزرعتي لا أشتهي النّجم والأجرام معشرتي لو لم يحاذ الخفايا قول شيطاني (10/02/1982) لقد عاد بوعزّة حيموري من غياب طويل ابتعد فيه عن شاطئ القصيدة، عاد يحلم بأبيات الشّعر وهي تناجي وحدة الشّاعر وغربته عن قوافيه، كان وهو يمسك بجسد القصيدة كطفل يستعيد أحلامه على أجنحة الخيال، متوثّبة يحفّزها عشقه لمشاركة كائناته الحلمية العائدة لتوّها من أماله التي تشعرها وئيدة، ومن آلامه التي تنتفض لكي تمنح الكلمات عطر ميلادها الأول، فتتدفّق الشّعرية فصيحة وشعبية كما لو أنّ عكاظ ساقت أشياءها عبر المدى لتحيي ليل مدينة غادرها عشّاقها. كان الزي العربي لبوعزّة فرصة لكي ترسم القصيدة شكلها التّاريخي المفعم بالحميمية التي تعيد للسّماع مجلسه، والعكاظية التي ترمّم هدم الاحتفالية، وشاهدية الشّاعر، كعاشق للرّيحان والأجرام، تقف على ميلاده المزهو برمق قبيلة تقيم في أعرافها الأولى الفرح الأكيد بالقصيدة، لهذا تتملّكه رصانة الكتابة الشّعرية وصرامتها، فهو كما أخبرنا لم يخض غمار الشّعر الشّعبي إلا بعد أن أجازه شيوخ هذا الفن، فأتقنه: غيثني يا جليل يا رب يا رحمان يا لداري يا كنان خايف من صهد النّيران راه زادي قليل كاثر منو تشطاني بوعزّة حيموري شاعر من أزمنة مضت، لكنّها أصرّت على العودة إلى الرّاهن لتعيد اشتباكها في حضنه مع ما كان يحرّك ذات عمر في العمق أجراس القصيدة، لمّا يلقي يستريح في هدوء الإصاتة، فتجتمع في هيئته أشكال البيئة التي يدير عناصرها في مدارات النص المختلفة والمتداخلة، ثم يستفيق فجأة على تدخّلٍ من أحدنا، فيستلم الكلمة ليوقظ من جديد الإحساس بقصيدة يشعر ذاته ظَلَم استمراريتها لبرهة من الزّمن، يستدير نحو الأستاذ امحمد بن عربية لكي يستفسر حول الوزن والكلمات الهاربة، الإيقاع هو صورة الشّعر حين تنتظم القصيدة متدافعة من جوهرها التّاريخي، لهذا كان بوعزّة ملحاحا في تنظيم مسار النص، والتأكيد على أنّه اجتمع بنا ليسمع المعنى حول القول في القصيدة، والرّؤية في فتنتها التي لا تنتهي، وميزانها الذي يعدل مسار الشّاعر في انتباهاته لأنغام الكلمات. دار بذهني وهو يكرم جلستنا بمائدته، ببساطته واستعذابه للحديث حول الشّعر، سيرورة القول العربي في نظام الشّعر برمّته، حين دعا أبو تمام إلى فهم ما يقال، إنّها الإشارة إلى الصّعود نحو مقامية القصيدة الغابرة في ذات الشّاعر، وفي غمرة الوقت أخدنا الذّوق فهامت بنا الأسماع ورحنا نتلقفنا من أفلاك بعيدة، حدّثنا فيها هاتف الشّعر بأن القصيدة ما زالت قائمة، ونظامها سائد، ومجلسها، وحده الشّاعر قادر على ردّ الاعتبار إليه، مضى الوقت ولم نلتفت إلى دقّاته، كان بوعزّة وحده في ضيافة أضمومته العائدة من أزمنة الغربة، جرس أصيل في زمن القصيدة.